هل تذهب أوروبا بعيداً نحو اليمين؟

2024.06.21 | 06:15 دمشق

آخر تحديث: 21.06.2024 | 06:15 دمشق

ألمانيا
+A
حجم الخط
-A

يذكر إيريك هوفر مؤلف كتاب المؤمن الصادق أنّ أحد الشباب النازيين كتب في رسالة وجهها لزملائه في الحزب قبيل الحرب العالمية الثانية قائلًا: "نحن الألمان سعداء جدًا، نحن متحررون من الحريّة". يشرح هوفر في كتابه المذكور الذي ألّفه في خمسينيات القرن الماضي بُعَيْدَ الحرب العالمية الثانية، كيفية نشوء الحركات الجماهيرية والعوامل التي ساعدت على ذلك.

لقد كان لحالة الإحباط الكبرى التي عمّت أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى أثر كبير في ظهور الحركات النازية والفاشية والشيوعية بحسب رأي المؤلف. إضافة إلى العوامل الاقتصادية التي نشأت إثر تلك الحرب وما رافقها من تحولات اجتماعية هائلة خاصّة مع انهيار إمبراطوريات عديدة، ولّد الإحباطُ العامُ المناخَ النفسيَ المناسب لدى شرائح واسعة من الأوروبيين بضرورة التغيير، وبحسب رأي هوفر ما كان لأشخاص مثل موسوليني أو هتلر أو لينين أن يصبحوا قادةَ حركاتٍ جماهيريةٍ هائلةٍ غيّرت وجه أوروبا، لولا الاستعداد الهائل لانقياد المحبطين من شعوبهم. يقول هوفر: "أولئك الذين يرفضون الحاضر ويوجهون قلوبهم إلى الأشياء التي سوف تحدث، يستطيعون توقّع التغيير، سيئًا كان أم جيدًا.. كثيرًا ما يكون المتطرفون، لا الخيّرون، هم الذين يعثرون على الخيوط التي تقود إلى الحلول القادمة في المستقبل".

تعيش أوروبا الآن أجواءً شبيهة بتلك التي سادت قبيل الحرب العالمية الأولى، وصحيح أنّه من المستبعد الآن نشوء حرب عالمية ثالثة، لأنها ستكون الأخيرة، إلا أنّ ما تشهده شرائح متزايدة من ضغوط اقتصادية يودي بها إلى المزيد من الإحباط والقلق والتوتر. بدأت حلقة الأنظمة الديمقراطية تقترب أكثر فأكثر من استنفاد جاذبية نموذجها الاقتصادي الرأسمالي، وقد لعب التضخّم الناتج عن أزمات كبرى مثل أزمة الرهن العقاري في أميركا قبل عدّة أعوام والتي تحولت عام 2008 إلى أزمة مالية عالمية، وجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، لعبت دورًا في تقلّص شرائح الطبقة الوسطى وازدياد شرائح الطبقات الكادحة.

يكاد كثيرون من المواطنين الأوروبيين لا يقدرون على تحمّل تكاليف الحياة اليومية، بينما تزداد أرباح أصحاب رؤوس الأموال بشكل مضاعف. لقد صُمم النظام الرأسمالي ليخدم الفئة صاحبة القدر الأكبر من المال، وهذا ينعكس في سيطرتهم على السياسيين الذين يمثلونهم في الحقيقة أكثر مما يمثلون ناخبيهم من بقية طبقات الشعب. كانت ميزة الاشتراكية أنها لطّفت من وحشية الرأسمالية وغلوائها في أوروبا من خلال ابتداع نظام التضامن الاجتماعي. استطاع هذا النظام أن يضمن حدودًا دنيا لحياة الفقراء، بحيث لا يدعهم يصلون إلى حالة الإحباط التي تسهّل انقيادهم وراء زعماء متطرفين يمكن أن يقودوهم إلى حراك جماهيري واسع كالنازية أو الفاشية.

تزداد شعبيّة اليمين واليمين المتطرّف في أوروبا يومًا بعد يوم، لأنّ ما يقوم به قادة هذا التيّار هو دغدغة مشاعر المحبطين من فئات الشعب. يصوّر هؤلاء للناسِ أنّ المشكلة ليست فيهم، بل في النظام ذاته

تزداد شعبيّة اليمين واليمين المتطرّف في أوروبا يومًا بعد يوم، لأنّ ما يقوم به قادة هذا التيّار هو دغدغة مشاعر المحبطين من فئات الشعب. يصوّر هؤلاء للناسِ أنّ المشكلة ليست فيهم، بل في النظام ذاته، ويسوقون أمثلة واقعّية يرونها بأمّ أعينهم حاضرة أمامهم، ويركزون على خلق عدّو خارجي غير منتمٍ للشعب، وهم هنا المهاجرون، فيصبح هؤلاء الحلقة الأضعف المستهدفة والتي تتركز حولها مشاعر الغضب. وبينما لا يمكن لليمين الآن أن يحمّل اليهود مسؤولية كل المشكلات التي تعيشها أوروبا كما فعلت النازية قبل مئة عام، فإنّهم يتوجهون لخلق عدّو آخر. هذا العدو هو المهاجرون، وبالأخص المسلمين منهم، هؤلاء الآن هم يهود هذا العصر بنظر الأوروبيين.

يصبح النظام الديمقراطي ذاته عرضة للتشكيك والنقد، وبالتالي تبدأ الأسئلة حول ضرورة التغيير، لأنّ المحبطين يكرهون حاضرهم ويرغبون الخلاص منه بأي شكل، فيتطلعون إلى المستقبل الذي لا يفكرون كيف سيكون حتى. هذا أحد أسباب نشوء الترامبية باعتبارها ظاهرة محيّرة تبدو من خارج سياق النظام الديمقراطي الليبرالي، لكنّها في حقيقة الأمر وجوهره الابن الشرعي له، فقد استحكمت حلقاته وبدأت تتخلّق ميكانيزمات جديدة للتغيير، ولا يشترط أبدًا أن تكون نحو الأفضل، فقد يكون ترامب، إذا ما نجح بالانتخابات ثانيةً، هو هتلر العصر بحلّته الجديدة وفي دولة يمكنها أن تحقق النجاح العالمي لهذه الظاهرة. هكذا يمكن أن يؤثّر نجاح ترامب ثانية على فرنسا فتصبح ماري لوبين رئيسة المستقبل القادمة، وعلى شاكلتها ستكرّ السُبحة.

يقول هوفر في كتابه: "يبدو أنّ القاعدة هي أنّه بمجرّد أن يضعف نمطٌ من التنظيم الجماعي تصبح الظروف مؤاتية لصعود حركة جماهيرية ونجاحها في إيجاد تنظيمٍ جماعي أشد تماسكًا وقوّة من التنظيم المنهار". هكذا يمكن أن يلتفّ حول ترامب، رغم أنّه المثال الصارخ والفاقع للرجل الأبيض بعقليته التمييزية والعنصرية، فئات من المحبطين تضّم شرائح واسعة من المهاجرين الملونين والنساء والفقراء البيض! فكيف يمكن تفسير مثل هذا الجنون دون الدخول في نفسيّة المحبطين؟ إنّ ميزة القائد أنّه يعطي المحبطين الأمل، وهو يقودهم بعيدًا عن ذواتهم التي يكرهونها، فيصبح الاستسلام له غاية بحد ذاتها، فهو من يحمل عنهم المسؤولية كلها، مسؤولية التفكير واتخاذ القرار، وحتى المسؤولية الأخلاقية عن العنف يحملها عنهم. ألم يَعِدْ ترامب بالعفو عن مرتكبي اقتحام الكابيتول حال فوزه بالانتخابات مجددًا؟ وهكذا لا يعود المحبط مضطرًا للتفكير بأسباب فشله الفردية والشخصية، فيزداد انخراطه في المجموع المنقاد وينصهر ببوتقة المثال الذي يجسّده القائد.

يحلم كلّ واحدٍ من أتباع ترامب بأن يحطّم النظام الذي فشل في تحقيق تطلّعاته، وهو يرى في ترامب ذاته نموذجًا من خارج النظام السياسي، لكنّه يوهم نفسه المحبطة بأنّه نموذج من خارج النظام الرأسمالي كلّه. هكذا تسير فئات واسعة من شعوب أوروبا نحو الإحباط، ومثلها بعض فئات الأميركيين، فهل نشهد مع فوز ترامب حركات جماهيرية شعبوية في أميركا وأوروبا تغيّر شكل العالم الراهن؟

 

كلمات مفتاحية