تركيا وإيران قوتان إقليميتان لهما نقاط ومراكز نفوذ على بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا، وكلا الدولتين تتصارعان على حماية وتوسيع مناطق نفوذهما، من خلال أدواتهما الفاعلة. ويدور الصراع في السنوات الأخيرة حول بناء النفوذ في (أذربيجان، أرمينيا، جورجيا، كازاخستان، قيرغيزستان، أوزبكستان، طاجكستان، تركمانستان)، حيث غالبيةُ سكان هذه الدول من القومية التركية. ولهذه الدول أهمية اقتصادية لامتلاكهم احتياطيات ضخمة من الغاز والبترول وبخاصة أذربيجان وتركمانستان، إلا أن الدول المشار إليها تعتبر دولاً حبيسة لا تمتلك منافذ بحرية، وهي مضطرة للاعتماد على الدول المجاورة لتصدير واستيراد سلعها عبر روسيا وبدرجة أقل عبر إيران وجورجيا.
وامتلاك الدول التي أشرنا إليها لاحتياطيات ضخمة من الغاز جعلها هدفاً دائماً للدول الأوروبية منذ تسعينيات القرن الماضي لتمديد خطوط أنابيب لنقل الغاز، إلا أن أغلب المشاريع فشلت بسبب النفوذ الروسي، وأهمها كان مشروع نابوكو. وفي عام 2020 استطاعت تركيا تدشين خط تاناب الذي يربط أذربيجان بإيطاليا وهو بذلك أول مشروع للغاز بين أذربيجان وأوروبا عبر تركيا. وفي الوقت الحالي تحاول كل من تركيا وأذربيجان تأسيس ممر زنغزور المخطط عبوره من أراضي ولاية زنغزور الأرمينية التي تفصل بين البرّ الرئيسي لأذربيجان وإقليم ناختشيفان الأذربيجاني ذاتي الحكم المحاذي لتركيا. ومن المهم الإشارة إلى أن القضية الأساسية للصراع بين الأطراف الإقليمية والدولية في المنطقة الواقعة بين أذربيجان وأرمينيا هي المنافسة الجيوسياسية على موارد وخطوط الطاقة، والأداة الرئيسية لهذا الصراع هي إثارة النزاع القومي العرقي. ونناقش في سطور هذه المقالة الأهمية الجيوسياسية لمعبر زنغزور بالنسبة لتركيا وإيران الذي سينعكس على شكل التدخل ومستوى الصراع المتوقع بين الدولتين.
المصالح الجيواستراتيجية التركية
يحقق مشروع ممر زنغزور فوائد اقتصادية جمة لتركيا، فمع افتتاح المشروع سترتفع فرص كل من أذربيجان وتركمانستان في تصدير غازهما للسوق الدولية عن طريق الأراضي التركية، وبذلك ستحقق أنقرة مكاسب على صعيد رفع مستوى أمن الطاقة، بالإضافة إلى إيرادات مالية لقاء مرور خطوط الأنابيب من أراضيها، فضلاً عن ميزة شرائها للغاز بسعر مخفض، فوق كل ذلك يدعم هذا الممر طموح تركيا في أن تكون مركزاً وسوقاً لتصدير الغاز دولياً. ومن جانبٍ آخر سيرفع المشروع من حجم الصادرات التركية لدول وسط آسيا. أما من الناحية السياسية فستبسط تركيا من نفوذها على دول القوقاز لأنها ستكون البوابة الرئيسية لتلك الدول للسوق الدولية. ومن الناحية الجيواستراتيجية الأمنية والعسكرية سيكون الممر بمنزلة حلقة وصل بين حلف الناتو مع دول القوقاز ووسط آسيا. كما قد يضعف النفوذ الإيراني على دول القوقاز لأنه سيخفض بشكل كبير اعتماد تلك الدول على إيران في عمليات الاستيراد والتصدير. وفي حال تطبيق هذا المشروع ستكون تركيا حلقة الوصل بين آسيا الوسطى وأوروبا عبر هذا الممر، إلى جانب تعزيز الأواصر مع العالم التركي (الدول الناطقة بالتركية) سياسياً ولوجستياً وتجارياً.
المصالح الجيواستراتيجية الإيرانية
ترى إيران أن فتح معبر زنغزور لا يعزز النفوذ التركي في المنطقة فحسب، بل يعزز من نفوذ الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، إذ يعتبر الاتحاد الأوروبي أذربيجان شريكاً استراتيجياً له في جعل أوروبا أقل اعتماداً على موارد الطاقة الروسية. كما أن إيران لا تريد السماح لأنقرة بزيادة نفوذها في المنطقة الواقعة شمالها، ولا تريد نجاح مشاريع الغاز والبترول التي تمر من الأراضي التركية إلى السوق الدولية لعدة أسباب: أولاً تريد إيران أن تكون هي دولة العبور لصادرات أذربيجان وتركمانستان وأوزباكستان من أجل الاستفادة من عائدات المرور كما هو الحال في خط أنابيب أسسته أذربيجان وهو خط باكو-أستارا، وبعد الحرب مع أرمينيا وقعت أذربيجان اتفاقية تبادل مع إيران لتصدير الغاز إلى ناختشيفان عبر الأراضي الإيرانية، وإيران تنقل هذا الغاز إلى ناختشيفان عبر خط سلماس- نخجوان، وتحصل إيران على عمولة بنسبة 15٪ من دخل العبور. ثانياً، إن وصول احتياطيات البترول والغاز من آسيا الوسطى إلى السوق الدولية وخاصة الأوروبية، التي تطمح إيران للوصول إليها، سيقلل مستقبلاً نسبة الصادرات الإيرانية. ثالثاً، فيما يخص العلاقات التجارية مع أرمينيا، فهي مهمة أيضاً للنظام الإيراني بسبب العقوبات الأميركية، إذ ترى طهران أن جميع الدول التي ترغب في التجارة معها مهمة، وخاصة أنها دولة مجاورة. وبين عامي 2019 و2020، تراجعت العلاقات التجارية بين إيران وأذربيجان، مما جعل أرمينيا حليفاً أكثر جاذبية للإيرانيين. رابعاً، لا ترغب طهران في أن تكون أذربيجان مركز جذب للأذريين الذين يعيشون في إيران، وفي الوقت نفسه من المتوقع أن يؤثر فتح ممر زنغزور على علاقاتها مع أرمينيا وانفتاحها على البحر الأسود. ولذلك تعتبر إيران إنشاء ممر زنغزور خطوة استراتيجية ضدها ولن يكون التغيير في الحدود من صالحها، لأن الممر سيقطع وصولها إلى البحر الأسود وروسيا وسيخفض من نفوذها على دول آسيا الوسطى والقوقاز. وفي الحقيقة كل الأسباب التي تم ذكرها بالنسبة لإيران في كفة وزيادة تأثير تركيا وأذربيجان في المنطقة في كفة أخرى، فهو السبب الحقيقي للقلق حيال ممر زنغزور. والتعاون العسكري التركي الأذربيجاني في حرب كاراباخ الأخيرة أظهر البلدين كقوتين رئيسيتين في المنطقة، بجانب تغيير موازين القوة في اتجاه لا ترغب فيه إيران.
شكل الصراع التركي الإيراني
تعتبر تركيا منطقة القوقاز تاريخيًا مكانًا لتحقيق مصالحها الوطنية، وتسعى حتى يومنا هذا إلى توسيع نفوذها باستخدام أدوات في مجالات الاقتصاد والطاقة والخدمات اللوجستية والعسكرية، وبالتالي، هي تنافس إيران وروسيا على مناطق النفوذ. وستحاول تركيا حشد الدعم الإقليمي والدولي، فمن المتوقع أن تدعمها دول الاتحاد الأوروبي لأنها ستحقق مكاسب في الوصول إلى احتياطيات الغاز من تركمانستان وأذربيجان، وسيسمح لها بالتخلص من جزء كبير من الاحتكار الروسي لسوق الغاز الأوروبي. كما أنه من المتوقع أن تحصل تركيا على دعم كبير من إسرائيل التي تعتبر أذربيجان منطقة نفوذ مهم لها، أولاً، لأن أذربيجان تصدر لإسرائيل 40٪ من مجموع استهلاكها للنفط، وهي سوق مهمة للسلاح الإسرائيلي. ثانياً، تشكل منطقة القوقاز نقطة توتر ضد إيران، لوجود تقاطع بين المصالح التركية والإسرائيلية والتي تتمثّل في إضعاف إيران، وتعطي لإسرائيل إمكانية الوصول إلى الحدود الإيرانية وامتلاك حليف قوي، وهي ميزة يمكن أن تستخدمها لممارسة ضغوط على طهران.
في حين أن إيران ستعتمد على حليفتها الاستراتيجية روسيا التي أيضاً لن تتنازل عن نفوذها التاريخي في منطقة القوقاز لصالح تركيا، والأهم من ذلك أن نجاح افتتاح مشروع زنغزور يضر بالدرجة الأولى بالمصالح الروسية الاقتصادية. والنظام الإيراني ينظر إلى أرمينيا على أنها حليف، وليس لديه مصلحة في تحقيق بيئة آمنة في المنطقة تؤدي إلى تأمين طرق وإمدادات الغاز والبترول القادمة من أذربيجان والدول الأخرى إلى السوق الدولية ما يؤدي ضمناً إلى تمكين تركيا في المنطقة.
بالنتيجة السيناريو الأكثر توقعاً لشكل الصراع بين تركيا وإيران هو دعم طرفي النزاع. ومن المتوقع أن تقوم طهران بدعم القوات الأرمنية الانفصالية الموجودة في بقايا إقليم كاراباخ بالعتاد العسكري، الأمر الذي قد يُعيد التوتر للمنطقة المتنازع عليها لتنطلق شرارة الحرب العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا كالحرب الأخيرة في عام 2020. وحينئذ ستدعم تركيا وحلفاؤها أذربيجان عسكرياً من خلال تقديم الأسلحة المتطورة. وسيكون شكل الصراع أقرب إلى الحالة السورية عندما دعمت تركيا قوات المعارضة، ودعمت إيران قوات النظام، ومن غير المتوقع أن نشهد مواجهة مباشرة بين الدولتين؛ لأن حجم الخسائر التي تلحقها المواجهة أكبر بكثير من المكاسب التي قد يحققها الطرفان من منع أو تشغيل ممر زنغزور. كما أن بين الدولتين مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية المهمة لا سيما في مجال الطاقة.