في البدء لا بد من التفريق بين أفول القراءة كزعم شائعٍ، وبين أفول الكتاب الورقي والتحول إلى الكتاب الإلكتروني، شتان بين الأمرين، مع الأخذ بعين الاعتبار ركون الجيل الجديد من الشباب، إلى ما تقدمه وسائل التواصل والمدونات والصحافة الرقمية، من مواد سريعة وموجزة، وربما تكون سطحية في معظم الأحيان، وقد انتشرت مدونات تميزت بجهد كبير، من قراء متمرسين يقدمون موجزات وملخصات لقراءاتهم، تغني المتابع في كثير من الأحيان، ولكن هذا يبقى قراءة للكتاب من وجهة نظر هذا المدون أو ذاك.
وكما هو الاجتهاد مطلوب في تحري الكاتب والكتاب الجيد، في زمن الغثاثة الذي نعيشه، كذلك هو مطلوب في تحري جودة وموثوقية المدونين والملخصين، الذين يقدمون للمتابع وجبات مكثفة من تجاربهم في عالم الكتاب.
أما في عالم الصحافة فقد شهدنا في العقود القريبة المنصرمة، انسحاب العديد من الصحف من حيزها الورقي، الذي كانت تعاني فيه من مشكلات الشحن والرقابة والتوزيع، وقبول هذه الدولة بدخولها ورفض تلك، وتعذر إصلاح الخطأ في الخبر أو في الطباعة إلا بعدد وبوقتٍ لاحق، بينما جميع هذه المشكلات بعيدة كل البعد عن الفضاء الرقمي، فأي خبر أو خطأ يرد في مادة صحفية يمكن شطبه أو تعديله خلال ثوانٍ معدودة، كذلك القدرة المبهرة لإدماج الصور الملونة وحتى مقاطع الفيديو في تلك الصحف بينما يتعذر هذا على الصحف الورقية، هذا إذا تغاضينا عن كون الشطر الأكبر من الصحافة الرقمية اليوم تصل مجانا لكل متلق، كما يصل الخبر فيها للمتلقي فور حدوثه.
استحوذت الشاشات الرقمية، التي باتت أساسية وفي متناول كل إنسان، على الكثير الكثير من تفاصيل حياتنا، فجميع بياناتنا وصورنا وتعليقاتنا والرسائل التي تردنا أو تلك التي نرسلها، وحساباتنا المصرفية ومواعيدنا القريبة منها والبعيدة، مجدولة عبر تلك الشاشات التي نحملها أينما ذهبنا من دون عناء، بل بلغ الأمر أننا لا نستطيع التحرك من مكان لآخر بمعزل عنها، ولو نسيها أحدنا وخرج من بيته فسيجد نفسه غائبا عن خارطة العالم إلى أن يعود إليها، كما أنه يستطيع الانتقال بسهولة بالغة بين أسطر الكتاب الرقمي الذي يعكف عليه، وبين شروح وترجمات وتعليقات تتوفر بيسر في المواقع الإلكترونية، التي عرضت لهذا الكتاب.
يبقى الكتاب الورقي والصحافة الورقية مرتبطة لدى جيل الخمسينات والستينات بحميمية خاصة لارتباطها بطقوس كانت في أغلب الأحيان محصورة بالنخب المثقفة، أو بطبقة القراء
كذلك الأمر في انتشار الكتاب الصوتي الذي ظهر منافسا للكتاب الورقي لأول وهلة، لكنه عبر الممارسة والمتابعة سنجد أن الفارق بينهما ما يزال شاسعاً. فالكتاب الورقي والرقمي، يتيح إعادة قراءة الفقرة مرات متكررة حسب حاجة القارئ، بينما يتطلب هذا مع الكتاب الصوتي جهدا مضاعفا، كما يتيح الكتاب الورقي إمكانية كتابة الهوامش والتعليقات التي تكتسي أهمية بالغة للدارسين والباحثين بينما يتعذر هذا مع الكتاب الصوتي.
ربما ينفع الكتاب الصوتي في حالات العجز عن القراءة البصرية أو المعاناة منها، لكنه بكل تأكيد يحتاج لجهد مضاعف في ممارسة التركيز ومعاندة التشتت، فالقراءة البصرية بحد ذاتها تعمل على تركيز القارئ لأنه لن يستطيع متابعة القراءة إن هو سرح بأفكاره بعيدا، بينما الشرود ومجاراة الخيال والخواطر العابرة خلال السماع أمر شديد الشيوع ويشق معاندته.
من النقاط التي يمكن ملاحظتها في دراسة ظاهرة التحول عن الكتب الورقية إلى الكتب الإلكترونية أيضاً، سهولة الوصول إلى الكتاب الإلكتروني وشيوع الكتب المجانية عبر المواقع التي تقدم عشرات الآلاف منها، ورخص ثمن الكتاب الإلكتروني الحديث، مقارنة بالكتاب الورقي، وسهولة توفيره فور صدوره، وتخطي عقبة وصول كتب بعينها إلى بلدٍ بعيد، وتوفير أجور الشحن التي تتجاوز في بعض الأحيان قيمة الكتاب ذاته.
ويبقى السؤال مشروعاً، هل نحن آخر جيل يقرأ الكتب؟ ربما يكون هذا أمرا لا مندوحة عنه أمام سيل مخرجات الفضاء الرقمي، التي تغرق المتابعين بالمواد الغنية والماتعة والسهلة، فالصورة والصوت والموسيقا التصويرية وبراعة المقدم وإشباع الميل للكسل جميع هذا يجعل النشء الجديد أكثر ميلا للعزوف عن الكتاب الورقي، والميل لمصادر تغذي ثقافته وتشبع فضوله ومتعته بأيسر الطرق، وهذا بالضبط ما تتيحه الميديا الفائقة التطور اليوم، فما بالنا بما ينتظرنا غداً ونحن نلمس ذلك التسارع غير المسبوق، في تطور الفضاء الرقمي وأدواته، خاصة أن الحلم القديم في أن يتمكن الإنسان من تلقي حزم هائلة من البيانات والمعلومات وحتى اللغات عبر مجسات إلكترونية تنقل تلك البيانات إلى الدماغ في جلسة قصيرة أصبح قريب المنال والتجارب العلمية التي تهتم بهذا توشك أن تبهرنا بنتائجها المقبلة.
وليس بعيدا عنا ما طرحته شركة "نيورالينك" (Neuralink) -التي أسسها إيلون ماسك وآخرون، ففي نيسان 2021 تم إنتاج شريحة سميت "إن وان لينك" (N1 Link) - يمكن زراعتها في منطقة القشرة الحركية في الدماغ المسؤولة عن حركة اليد والذراع، وهذه الأبحاث في تسارع مضطرد كما هو معلوم.
يبقى الكتاب الورقي والصحافة الورقية مرتبطة لدى جيل الخمسينات والستينات بحميمية خاصة لارتباطها بطقوس، كانت في أغلب الأحيان محصورة بالنخب المثقفة، أو بطبقة القراء، مرتبطة برائحة التبغ والقهوة، بملمس الكرسي الذي يجلس عليه، ملمس الورق، رائحة المكتبات وصحبة الأقران المشتركين بهذا الهوى الجميل، أما الأجيال الجديدة فهي بريئة من هذه الحميميات الجميلة وقد استعاضت عنها برموز وأرقام الأجهزة الحديثة التي يدور شطر من حياتهم ومتعهم عبرها، يبقى السؤال مشروعاً: هل سينتهي عصر الكتاب الورقي ليفسح المكان للكتاب الرقمي، وهل سيصمد الكتاب الرقمي طويلاً أمام ثورة الشرائح التي ستغزو أدمغتنا عما قريب؟