على تويتر، قرأتُ تغريدة لمعارض سوري، أثارت لدي أسئلة لها أول وليس لها آخر، يقول فيها إن سوريا كانت، وستبقى، للسوريين، و"الشام" طول عمرها عصية على الغزاة والطامعين والغرباء..
(لو لم يكن نظام تويتر يلزم مشتركيه بعدد معين من الحروف لكل تغريدة، لأضاف صاحبُنا أن دمشق قلب العروبة النابض، قلعة الصمود، الصخرة التي تتكسر عليها الـ.. إلخ).
أول ما خطر ببالي؛ أننا ثرنا على نظام الأسد، وكرهناه كراهية تحريمية، من كثرة إطلاقه الشعارات الفارغة.. فارغة إلى درجة أنك لو وضعتها في مكبس، وكبستَها لآخر رمق، يستحيل أن ينزل منها قطرة ذات مغزى أو أهمية.. ومع ذلك، لا يقلُّ بعضُ إخوتنا المعارضين عن نظام الأسد ولعاً بإطلاق الشعارات الفارغة..
دعونا نطرح أسئلة، تبتدئ بـ (السوريين) الذين قصدهم المعارض الكريم بتغريدته المذكورة: مَن هم؟ وأين هم؟ ولمصلحة من يعملون؟ وهل يجتمعون الآن على حب سوريا والإخلاص لها؟ ولماذا امتلأت بهم المنافي وبلاد اللجوء؛ بينما تكتظ سوريا اليوم بتشكيلة واسعة من غرباء، يسيدون فيها ويميدون، ولا أحد يجرؤ أن يسألهم: ثلث الثلاثة كم؟
في القرن السادس عشر الميلادي، دخل العثمانيون البلاد التي يسميها معارضنا الكريم "الشام"، ولم تكن سوريا المقصودة معروفة بحدودها الحالية، وحكموا تلك البلاد أربعمئة سنة، وطجة..
لن أخوض مع دعاة الخلافة العثمانية الجدد في جدل عقيم؛ فيقولون لي إن فترة الحكم العثماني كانت عظيمة، وأنا أقول لهم إنها لم تكن كذلك، ويقدم كل واحد منا للآخر براهين مبنية على معلومات مستقرة في الأذهان.. بل سأقتصر على سؤال واحد:
- هل كان العثمانيون سوريين، أم غرباء؟
وطالما أنهم غرباء؛ كيف ولماذا عشنا تحت حكمهم 400 سنة، بهناء وصفاء؟
دعنا، يا سيدي الكريم، نمشِ في هذا القضية على مبدأ هنري كيسنجر، دادي دادي، ونسأل: حينما غادر العثمانيون بلادنا، في أواخر شهر تشرين الأول 1918، هل حل السوريون في الحكم مكانهم؟ لا والله، فسوريا أعطيت، يومئذ، للشريف حسين بن علي، أمير الحجاز، على هيئة "جائزة ترضية"، لمشاركته الإنكليزَ في محاربة العثمانيين وإخراجهم من هذه البلاد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن دخول فيصل دمشق (ومن بعدها حلب) لم يكن كدخول الفاتحين، لأن الفاتحين يتعرضون لمقاومة من أهل البلد، وقد يضطر الفاتح لمحاصرة مدينة ما شهوراً، وضربها بالمنجنيقات، بينما قوبل فيصل بالورود والزغاريد..
ليس الهدف من هذه المناقشة محاكمة الذين تعاقبوا على حكم سوريا منذ الأمويين، قبل أكثر من ألف سنة، من منطق أنهم سوريون أو غير سوريين، عرب أم غير عرب، مسلمون أو غير مسلمين، إنما المراد التروي في إطلاق الأحكام، وضرورة إعمال العقل.
يصف المؤرخ يوسف الحكيم، في كتابه "سوريا والعهد الفيصلي" دخول الأمير فيصل بن الحسين دمشقَ على النحو الآتي:
في الرابع من تشرين الأول 1918، دخل الأمير فيصل دمشق دخول الظافرين، فاستقبله الشعب على اختلاف طبقاته، وفي طليعته الحاكم العسكري "الركابي" وأركان حكومته، استقبال الملك العتيد، وحل الأمير من القلوب في الصميم، ونشر في اليوم التالي بلاغاً إلى الشعب يعلن فيه تأسيس حكومة عربية باسم جلالة مولانا أمير المؤمنين الشريف حسين.
تكاد المصادر التاريخية التي تناولت فترة الدولة السورية الفيصلية - التي استمرت اثنين وعشرين شهراً - تُجمع على أن الأمير فيصل كان رجلاً طيباً، ومحترماً، ولم يكن ظالماً مستبداً، بدليل أن أحد أعوانه نصحه بتعليق أنشوطة حبل على هيئة مشنقة أمام دار الحكومة (السرايا) لأجل إبراز هيبة الدولة، ففعل، ولكنه لم يستعملها قط، ولم نقرأ عن حوادث قتل، أو اغتيال، أو إعدام جرت في فترته.. وكان يمتلك رغبة صادقة في تحويل سوريا إلى دولة ذات شأن، وفي صبيحة يوم 8 آذار 1920 أصدر فرماناً يقضي بتسميتها "المملكة السورية".. ونحن لم نكن نعرف، ولا هو كان يعرف، ولا حتى أبوه يعرف، أن الإنكليز كانوا قد تقاسموا المنطقة مع الفرنسيين، وطلعت سوريا من نصيب الفرنسيين، فدخلوها يوم 23 تموز 1920 بعد مقاومة صغيرة من وزير الدفاع في الحكومة الفيصلية يوسف العظمة.
من الآخر: فيصل كان رجلاً طيباً، ولكن هل هو سوري؟
على الرغم من بؤر المقاومة التي تعرضت لها فرنسا خلال وجودها في سوريا الذي استمر ربع قرن، ومنها ما سمي ثورة الشمال التي قادها رئيس ديوان ولاية حلب إبراهيم هنانو، (من أركان الحكومة الفيصلية).. إلا أن الحكم استقر لها، ولم تكن تريد أن تغادر سوريا حتى بعد انتهاء مدة الانتداب لو لم تتحرك الولايات المتحدة الأميركية باتجاه إنهاء مرحلة الاستعمار (المباشر)، في أواخر الحرب العالمية الثانية.. ويمكن القول إن فرنسا أُجبرت على الخروج من سوريا إجباراً..
لم يكن الحكام السوريون، مع الأسف، كما نحب ونشتهي، إذ لم يمر على الاستقلال، 1946، سوى ثلاث سنوات حتى طرقوا البلادَ بثلاثة انقلابات عسكرية، جعلت الشعب السوري يعيش وقلوبهم في أيديهم خوفاً من سماع قعقعة سلاسل الدبابات وهي تطوق الإذاعة، ثم البلاغ رقم واحد المليء بالكذب والجعجعة، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بمقدرات الشعب السوري.. دواليك حتى وصلنا إلى سنة 1958، وكنا على وشك أن ننعم بنظام برلماني ديمقراطي (سوري) طيب، وإذا بمجموعة من الضباط السوريين الكبار يتسللون إلى القاهرة، تحت جنح الظلام، ليقولوا لجمال عبد الناصر: تفضل أخي، احكم سوريا. (انظر مقابلة شعبان عبود مع نشوان الأتاسي ضمن برنامج الذاكرة السورية.. وهناك مراجع كثيرة تؤكد وقوع هذه الحادثة، وتذكر أسماء الضباط الذين شاركوا بتقديم هذه الهدية الثمينة لعبد الناصر).
الغريب في الأمر أننا أدنَّا الأشخاص الذين استردوا سوريا من يدي عبد الناصر سنة 1961، (وهم سوريون)، وأطلقنا على عملهم اسم: الانفصال البغيض.
ليس الهدف من هذه المناقشة محاكمة الذين تعاقبوا على حكم سوريا منذ الأمويين، قبل أكثر من ألف سنة، من منطق أنهم سوريون أو غير سوريين، عرب أم غير عرب، مسلمون أو غير مسلمين، إنما المراد التروي في إطلاق الأحكام، وضرورة إعمال العقل – كما يقول ابن خلدون – في الخبر..
ويبقى السؤال الأهم بعيداً عن ميدان التداول، وهو:
- متى تصل هذه البلاد إلى عقد اجتماعي متحضر يتيح التداول السلمي للسلطة، ويحقن، من ثم، دماء أهل هذه البلاد المستباحة؟