سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إقناع القادة والمسؤولين الغربيين الذين زاروا تل أبيب منذ اندلاع الحرب بأن إسرائيل لا تمتلك خياراً آخر سوى مواصلة القتال من أجل القضاء على حركة حماس، أو بمعنى أدق، إنهاء وجود حماس والفصائل الأخرى في قطاع غزة، وبأن تحقيق هذا الهدف هو السبيل الوحيد الذي سيجلب الأمن لإسرائيل ويُساعدها على إعادة ترميم مفهوم الردع الذي تصدّع بقوة في السابع من أكتوبر. ومع أن نتنياهو حصر الأهداف المُعلنة للحرب في القضاء على حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليين والعمل على أن لا تُشكل غزة بعد الآن مصدر تهديد أمني لإسرائيل، إلا أن الاستراتيجية الإسرائيلية في الحرب تتجاوز هذه الأهداف. من خلال القوة التدميرية الهائلة التي استخدمها الجيش الإسرائيلي في شمالي قطاع غزة خلال شهر ونصف من الحرب، والتي صُممت بشكل أساسي على جعل هذا الجزء غير قابل للحياة مرّة أخرى، يظهر بوضوح التهجير القسري للفلسطينيين كهدف رئيسي. ومن المرجح أن تسعى إسرائيل لتطبيق هذه الاستراتيجية أيضاً في جنوبي قطاع غزة في المرحلة التالية من الحرب. مع ذلك، فإن فكرة تفريغ قطاع غزة من سكانه تبدو غير قابلة للتحقيق. فمن جانب، يُفضل الفلسطينيون عموماً الصمود وحتى الموت على مغادرة غزة لأنّهم يُدركون أن المغادرة تعني ببساطة لا عودة في المستقبل. ومن جانب آخر، يُعارض المجتمع الدولي بشدة بما في ذلك الولايات المتحدة أي تهجير لسكان غزة.
الاعتقاد الإسرائيلي يفترض أن السلطة لن تكون قادرة على بسط سيطرتها الأمنية على غزة ومنع ظهور المقاومة المسلحة من جديد كما تفعل في الضفة
إسرائيل تُدرك أن القضاء على وجود المقاومة في غزة (وهو هدف صعب التحقيق) من دون تفريغ القطاع من سكانه قد يُساعدها في تقليص حجم التهديد الذي تُشكله غزة عليها في المستقبل المنظور، إلاّ أن القطاع سيبقى بيئة حاضنة للمقاومة، وبالتالي، فإن المقاومة قادرة على إعادة إيجاد موطئ قدم قوي لها في القطاع في المستقبل. لذلك، يبدو نتنياهو واقعياً من منظور إسرائيلي في المطالبة بالسيطرة الأمنية الإسرائيلية على غزة بعد الحرب ورفض أي سيطرة للسلطة الفلسطينية عليها كبديل لحماس، لأن البيئة الاجتماعية في غزة حاضنة بشكل أكبر لحماس والفصائل المسلحة الأخرى بقدر أكبر مما هو عليه الوضع في الضفة الغربية المحتلة. وهذا الاعتقاد الإسرائيلي يفترض أن السلطة لن تكون قادرة على بسط سيطرتها الأمنية على غزة ومنع ظهور المقاومة المسلحة من جديد كما تفعل في الضفة. علاوة على ذلك، فإن أحد الأهداف الاستراتيجية الأساسية لنتنياهو في الحرب هو منع قيام سلطة فلسطينية موحدة في الضفة الغربية وغزة لأن ذلك سيقوض من قدرة إسرائيل على مواصلة رفض الانخراط في عملية سلام جديدة مع الفلسطينيين تُفضي إلى حل الدولتين. ولطالما قدم نتنياهو نفسه للإسرائيليين على أنه الزعيم الوحيد القادر على منع قيام دولة مستقلة للفلسطينيين.
وفق هذا المنظور الإسرائيلي المتطرف، فإنه يتعين على إسرائيل في هذه الحرب إنهاء وجود المقاومة في غزة وفرض التهجير القسري للفلسطينيين بشكل جزئي أو كامل بحكم الأمر الواقع، بالتوازي مع فرض السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع بعد الحرب. رغم ذلك، فإن فكرة القضاء تماماً على حالة المقاومة تبدو شبه مستحيلة من منظورين عسكري وديمغرافي. لقد مضى على الحرب ما يزيد على خمسين يوماً ولم تستطع القوة القتالية الهائلة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي أن تُنهي وجود المقاومة في شمالي قطاع غزة أو استهداف القادة العسكريين الكبار في حماس. ومن غير المرجح بأي حال أن تستطيع إسرائيل تحقيق هذا الهدف بوضوح مع أشهر إضافية أخرى من الحرب. إن مُجرد الترويج لفكرة أن إسرائيل قادرة على إخراج المقاومة من غزة وأن ذلك سيجلب الأمن لإسرائيل، علاوة على كونها محاولة لحرف أنظار الرأي العام العالمي عن المجازر البشعة التي يرتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين بذريعة البحث عن الأمن، تتناقض مع ثلاث حقائق لا يُمكن لنتنياهو تغييرها.
الحقيقة الأولى أن النضال الوطني الفلسطيني المسلح بكل أشكاله ضد الاحتلال هو نضال مشروع تكفله المواثيق والأعراف الدولية. يُمكن للغرب أن يُصنف حركة حماس كمنظمة إرهابية، لكنّ هذا التصنيف لا يُغير من واقع أن حماس هي مكون فلسطيني أساسي وأن أهدافها العريضة تتمثل في تحقيق التحرير الوطني من الاحتلال. حتى نتنياهو، الذي يسعى اليوم لفرض هذا التصور، كان يتعامل قبل السابع من أكتوبر مع حركة حماس كفصيل فلسطيني لا يُمكن التخلص منه ببساطة أو تجاهله في معادلة الصراع. علاوة على ذلك، فإن حماس لم تنشأ في الأصل كحركة تتبنى نهجاً راديكالياً تسعى لفرض أطروحات العنف بحد ذاته كغاية على غرار تنظيمي القاعدة وداعش بقدر ما أن النضال المسلح ضد الاحتلال حق مشروع كما في أي صراع لأصحاب الأرض مع المحتل. بهذا المعنى، فإن محاولة إسرائيل للجمع بين حماس وبين القاعدة وداعش من حيث الفكر الراديكالي لا يُغير من حقيقة اختلاف حماس الجذري عن القاعدة وداعش.
والحقيقة الثانية أن النضال الفلسطيني المسلح بدءاً من أول ظهور له كرد على جرائم التطهير العرقي التي مارستها الميليشيات الصهيونية بحق الفلسطينيين قبل إعلان دولة إسرائيل، وصولاً إلى حركة حماس، لم يكن سوى رد فعل مشروع وواجب وطني أيضاً للدفاع عن الأرض ومقاومة الاحتلال. بدلاً من جعل الأسئلة الجوهرية تتركز على ما إذا كان إخراج حماس من قطاع غزة سيجلب الأمن لإسرائيل، فإن التركيز على الأسباب الجوهرية التي أدت إلى انفجار حرب السابع من أكتوبر، وعلى رأسها انعدام الأمل لدى الفلسطينيين بالحصول على دولة بسبب السياسات الإسرائيلية هو السبيل الوحيد للبحث عن حل ليس فقط لإنهاء الحرب الراهنة بل أيضاً لحل جذري وشامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
السلطة الفلسطينية تحولت إلى أداة وظيفية لإسرائيل لمساعدتها في السيطرة الأمنية على الضفة الغربية. وفي المقابل، لم يجلب التخلي عن خيار السلاح الدولة للفلسطينيين، كما لم يجلب خيار القوة الأمن لإسرائيل
أما الحقيقة الثالثة فهي أن إسرائيل لم تجعل النضال المسلح للفلسطينيين مغامرة بقدر ما هو الأداة الوحيدة الأكثر فعالية التي يُمكنهم من خلالها أن يحافظوا على وجودهم وعلى قضيتهم من التصفية وأن يدفعوا إسرائيل والعالم إلى التعامل مع قضيتهم على أنها لا تزال قائمة وقادرة في التعبير عن نفسها بقوة. أوضح مثال على ذلك منظمة التحرير الفلسطينية التي قررت ترك النضال المسلح ضد إسرائيل مقابل وعود بالحصول على دولة. ماذا جرى منذ إبرام اتفاقية أوسلو؟ زادت إسرائيل من تغولها الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس بشكل قوَض أي فرصة لقيام دولة فلسطينية. كما أن السلطة الفلسطينية تحولت إلى أداة وظيفية لإسرائيل لمساعدتها في السيطرة الأمنية على الضفة الغربية. وفي المقابل، لم يجلب التخلي عن خيار السلاح الدولة للفلسطينيين، كما لم يجلب خيار القوة الأمن لإسرائيل.
إن نظرة سريعة على الأسباب الجوهرية التي دفعت حماس إلى شن هجوم كبير على إسرائيل في السابع من أكتوبر تُجيب ببساطة على سؤال ما إذا كان إخراج حماس من غزة سيجلب الأمن لإسرائيل. على مدى سنوات من الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، اعتقدت إسرائيل أن استراتيجية "جز العشب" في التعامل مع حالة المقاومة بالتوازي مع إغراء حماس بالتسهيلات المادية على غرار السماح بوصول الأموال إليها ومنح تراخيص للفلسطينيين للعمل في المستوطنات الإسرائيلية المجاورة، ستُساعدها في احتواء حركة حماس وجعلها أقل تهديداً لإسرائيل من خلال إقناعها بمزايا الحكم في غزة. لم تكن هذه الاستراتيجية ساذجة فحسب لأنها فشلت في منع اندلاع الحرب الراهنة فحسب، بل لأنها تعاملت أيضاً بشكل سطحي مع القضية الفلسطينية. قد تطمح إسرائيل إلى تكرار سيناريو إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982 في غزة من خلال خوض حرب طويلة الأمد مع حماس لدفعها إلى الاستسلام والخروج من غزة. علاوة على أن هذا السيناريو غير قابل للتطبيق في غزة لأن مقاتلي حماس هم أصحاب الأرض على عكس وجود منظمة التحرير في لبنان ومستعدون للقتال حتى الموت، فإنه لن تكون هناك دولة مستعدة على الأرجح لاستضافة مقاتلي حماس على غرار حالة منظمة التحرير وتونس.