"عندما يكبر ابنك بعيداً عن عينيك، لا يمكن لأي كلمة أن تختصر مشاعرك أو مأساتك، خاصةً وإن كان مع كل يوم يكبر فيه؛ تكبر معه مشكلة صحية باتت تهدد حياته، ولك أن تتخيل الآن أي حالٍ أعيش"، كلمات اختار من خلالها اللاجئ السوري في ألمانيا رائد (42عاما) أن يروي جزءاً من معاناته التي يعيشها منذ سنوات بعيداً عن أبنائه وزوجته بحسب ما أكده لموقع تلفزيون سوريا.
المستجير من الرمضاء بالنار
ربما هو القول الأكثر تعبيراً عما يعيشه رائد منذ أن قرر البحث له ولعائلته عن فرص حياة أفضل، لاسيما مع غياب أي حل يعيد الاستقرار لبلاده التي تركها فاراً بحياته وحياة أولاده الستة، دون أن يدري بما يخبئه القدر له ولأولاده الذين لم يراهم منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات على حد قوله.
يضيف رائد: "حصلت على إقامة حماية مؤقتة في ألمانيا وهي الإقامة التي لا تمنح حاملها في ذلك الوقت حقاً بلم شمل عائلته أسوةً بحاملي إقامة اللجوء 3 سنوات، لأبقى طيلة الفترة الماضية أسير الانتظار لما سيصدر عن الحكومة الألمانية في هذا الصدد والتي قررت قبل أشهر أن تبدأ بمنح حق لم الشمل لنا ولكن بشكل دوري، قد تمتد معه مدة الانتظار إلى ما شاء الله، لاسيما وأن معظم السوريين الذي دخلوا ألمانيا في العام 2016 حصلوا على ذات الإقامة، ما يعني عشرات آلاف الطلبات التي ستقدم مقابل بضعة طلبات لم شمل تقبل في كل شهر لمن هم بحالنا".
ووفقاً لما رواه رائد أن المشاكل لم تأتيه فرادى بل أتت مجتمعة لتنال من صحته وصحة ابنه الأكبر من بعده، مضيفاً: "بعد أن وصلت إلى ألمانيا بفترة وجيزة خضعت لعملية جراحية نتيجة إصابة قديمة في إحدى قدمي، وقتها أحسست بالحجم الحقيقي لمأساتي ومعنى أن تسقط على ركبتيك بعيداً عن عائلتك، ليأتي بعدها خبر مرض أحد أولادي جراء انسداد أحد شرايين قلبه ما جعله بحاجة لإجراء عملية جراحية"، لافتاً أن عدداً من الأطباء الألمان الذين عرض عليهم مشكلة ابنه الصحية أكدوا له إمكانية إجراء هذا النوع من العمليات في ألمانيا.
استكمالا لمشكلة ابنه يقول رائد: "المشكلة اليوم زادت تعقيداً خاصةً وأن ابني تخطى سن الثامنة عشر وبات من الصعب جداً أن ينطبق عليه شروط لم الشمل حتى وإن تمكنت من جلب بقية أخوته، ولا أدري الآن من أين أبدأ بحلحلة مشاكلي وبأيها أفكر، لاسيما وأني لا أجد أي ملامح لحل إحداها على الأقل"، متسائلاً عن الأسباب التي يمنح فيها أصحاب إقامات اللجوء "ثلاث سنوات" حق لم الشمل في الوقت الذي تعتبر فيه القضية معضلة بالنسبة لأصحاب الإقامة المؤقتة، لاسيما وأن الجميع سوريون في مخيمات الموت ويعانون من ذات الظروف الإنسانية الصعبة.
"فكرت كثيرا بالعودة إلى أسرتي حتى وإن كان في المخيمات لكن مجموعة من الظروف منعتني من القيام بهذه الخطوة على رأسها الناحية المادية "
"فكرت كثيرا بالعودة إلى أسرتي حتى وإن كان في المخيمات لكن مجموعة من الظروف منعتني من القيام بهذه الخطوة على رأسها الناحية المادية التي كانت العامل الأبرز الذي دفعني للتخلي عن الفكرة، خاصةً وأنني سأعود إلى مخيم لا عمل فيه ولا مستقبل ولا حتى بارقة لبقايا أمل"، يختم رائد حديثه، مشيراً إلى أنه اليوم لا يملك سوى الانتظار فيما يمضي العمر وتتفاقم مشكلة ابنه الصحية يوما بعد يوم.
عوائل في مهب الريح
"كورقة شجر تتقاذفنا رياح الخريف، لا ندري أي أرض سينتهي بنا المطاف إليها، ومتى سينتهي جزء من معاناتنا ومآسينا المستمرة منذ سنوات، فنحن انتقلنا من الخوف والقهر والموت إلى الشتات القاتل، نحيا على أمل لقاء لا تبدو له بارقة"، هو ملخص أيضاً تحدثت فيه السيدة مها الحمصي، عن مشكلتها التي تتقاطع في بعض التفاصيل مع معاناة رائد حتى وإن اختلفت في بقية سطورها.
تقول الحمصي: "لم أكن أملك رفاهية الاختيار ولا حتى وقت للتفكير حتى قررت في لحظة معينة أن أهرب بأولادي من مخاطر الحرب الدائرة في بلادنا منذ سنوات، لتنتهي رحلة الهرب في ألمانيا؛ مضيفةً فصلاً جديداً من فصول المعاناة في المأساة السورية وهي الشتات"، لافتة إلى أنها فرت من سوريا قبل خمس سنوات فيما بقي زوجها لأسباب شخصية في سوريا بانتظار لم شمل عائلته ورؤية ولديه مجدداً.
تضيف الحمصي: "المحطة الأولى كانت تركيا، وهناك خاض ابني الأكبر تجربة الوصول إلى ألمانيا كما فعل غيره من السوريين فيما بقيت أنا وابني الأصغر في تركيا قبل أن نلحق به بعد أشهر، ليضاف هنا فصل جديد من فصول الشتات للعائلة الصغيرة، حيث كان ابني يعيش في مقاطعة فيما عشت أنا وابني الأصغر في مقاطعة أخرى،"، لافتة إلى أنها حاولت الانتقال إلى حيث يعيش ابنها إلا أن محاولتها قد فشلت بسبب عدم حصولها على الإقامة في تلك الفترة.
معاناة الحمصي ووفقاً لما قالته تفاقمت بعد حصولها وابنها الأصغر على الحماية المؤقتة "عام واحد"، والتي لم تخولها من تقديم طلب لم شمل لزوجها ولا حتى من الانتقال للسكن مع ابنها الذي تجاوز سن ال 18ـ، لتعيش حالة شتات راسخ، تحول معها اجتماع العائلة على مائدة طعام أو تحت سقف واحد إلى حلم أشبه بالمستحيل على حد وصفها، "ولك أن تتخيل حالنا وأي مأساة نعيش كسوريين عموماً"، تضيف الحمصي.
يا فرحة ما تمت.. وجهود ضائعة
يقدر عدد الحاصلين على الإقامة المؤقتة "حماية ثانوية" في ألمانيا 113 ألفًا، بينهم 94 ألف سوري.
هذا الواقع وتشابك قضيتها لم يمنع الحمصي من السعي أكثر لمحاولة إنهاء حالة الشتات تلك، ما دفعها إلى التوجه لمحامي وطلب المساعدة منه، مشيرة إلى أن محاميها تمكن عن طريق المحكمة من تعديل نوع إقامتها وتحويلها إلى إقامة اللجوء التي تمكنها من المضي فوراً بإجراءات لم الشمل لزوجها، قبل أن يتدخل المكتب الفدرالي الذي طعن بالقرار وأعاد لها إقامة الحماية لتعود بذلك الأمور مجدداً إلى نقطة الصفر، وعلقت على ذلك قائلة: "يا فرحة ما تمت".
بعيون شاردة ويدين متشابكتين، وبكاء كان واضحاً حتى وإن لم تنهمر دموعه، ختمت الحمصي قصتها متسائلةً: "لا أدري هل يعقل أن نَفِرَ من القتل والدمار والحرب إلى الشتات؟، هل علينا أن نحيا في رحى الحرب حتى وإن بعدنا عنها آلاف الكيلو مترات؟، نعم هنا لا يوجد قذائف ولا موت ولا جوع، ولكن هناك شتات يبعدك عن فلذة كبدك، وهنا أتحدث بلسان زوجي الذي بات وحيداً تماماً في بلاده يعيش غربةً في وطنه خصوصاً وأن بقية أهله حالهم من حالنا مشتتين في دول اللجوء"، خاتمةً حديثها: "لاشيء باليد سوى الانتظار".
أمل الفرار وكابوس الفرقة
لم تتوقف روايات السوريين حول معاناتهم مع الشتات كواحدة من مفرزات أزمتهم الانسانية عند حد ما رواه رائد والحمصي، فبين القصتين تحدث الشاب إبراهيم الذي كان لقصته أيضاً تفاصيل مختلفة ومأساة من نوع مختلف كان مرض زوجته واحد من فصولها.
يقول إبراهيم: "آخر مرة رأيت فيها أبنائي وزوجتي كانت في العام 2015، عندما تركتهم مجبراً في مخيمات الموت في لبنان، لعلي أتمكن من إخراجهم منها في وقت لاحق بعد أن أصل إلى ألمانيا، ليبدأ مع ذلك مارثون السباق مع الزمن على طريق لم الشمل الذي لا يبدو أنه سينتهي".
ويضيف إبراهيم: "بعيدا عن شوقي الخارق لبناتي، مشكلتي الأخرى تتمثل بمرض زوجتي التي تعاني من التهاب حاد بالصدر منذ أكثر من سنة وهي تتعالج، تعافت لمدة شهرين ولكن عادت أعراض المرض مؤخرا بالظهور مرة أخرى".
وبين إبراهيم (الأب لسبع بنات)، أن أكبر بناته 19 سنه متزوجة في ألمانيا، ولكنها هي الأخرى تعيش بعيداً عنه، فيما تعيش بقية بناته مع أمهن، مضيفاً: "في الحالات العادية إن غاب ابنك عن المنزل لليلة واحدة لسبب ما كقضاء وقت مع أصدقائه أو كونه في عمل، تبقى طوال تلك الليلة وذهنك شارد فيما قد يحصل معه، ويأبى النوم أن يزور جفونك حتى عودته، فما بالك بمن لم يرى بناته ثلاث سنوات كاملة، ولا يدري متى قد يراهن مجدداً، الأمر أكثر مأساوية مما قد يعتقد البعض".
يشار إلى أن الحكومة والبرلمان الألمانيين قد أقرا في وقت سابق من العام الحالي منح الحاصلين على الحماية المؤقتة حق لم شمل أسرهم التي تعيش خارج الاتحاد الأوروبي على أن يتم ذلك وفق خطة بدأ تنفيذها في آب الماضي بقبول ألف طلب شهرياً.
ويضم لم الشمل وفقا للقانون الألماني كل من الزوجات والأطفال القاصرين وآباء الأطفال القاصرين الذين وصلوا إلى ألمانيا دون ذويهم، ولا يشمل القانون الزيجات التي تمت خارج سوريا في أثناء رحلة اللجوء إلى ألمانيا، إذ يشترط أن يكون عقد الزواج تم قبل اللجوء وليس بعده.
كما يربط القانون المذكور شروط اختيار القادمين إلى البلاد بالجوانب الإنسانية، كوجود حالة مرضية خطيرة، أو ابتعاد أفراد العائلة عن بعضهم منذ فترة طويلة، أو وجود طفل قاصر تتعرض حياته للخطر، في حين استبعد فئات معينة من اللاجئين الحاصلين على "الحماية الثانوية"، وهم "المتعاطفون مع الإرهاب والمحرضون على الكراهية"، ومن تصفهم السلطات بأنهم "خطيرون أمنيًا".
تجدر الإشارة إلى أن قرابة 200 ألف لاجئ، معظمهم من سوريا، يمكنهم الاستفادة من القانون، في الوقت الذي قدر فيه عدد الحاصلين على الإقامة المؤقتة "حماية ثانوية" في ألمانيا 113 ألفًا، بينهم 94 ألف سوري.