في قصة "طاسات خاوية" يذكر الكاتب حسان محمود وعلى لسان الراوي: "فالمجنون حسم خياراته وقرر التحررالدائم، وربما إلى الأبد، من أصفاد العاقلين، بينما "السكرجية" مترددون ويجربون الجنون كي يرتاحوا متخففين مؤقتاً من بعض القيود لا كلّها، وشتان بين هذين المذهبين الجنونيين.
كأن المحور العام لهذه المجموعة القصصية، "هكذا تكلم أبو طشت" الصادرة عن دار فضاءات في عمان عام 2020 هو تماماً هذا المعنى الذي ورد في السطور السابقة، فهذا البطل "أبو طشت" مجنون في عالم غير عاقل، أو مجنون تشبث بجنونه في هذا العالم غير المعقول.
في قصة "اللقاء الأخير" يصنف الراوي المجانين إلى صنفين: طلقاء في الشوارع ومسجونون في العصفوريات، وفي أحداث هذه القصة يستند الكاتب إلى الذاكرة الشفهية الجمعية لأهل مدينة سلمية، حيث يعرف غالبية أبنائها قصة ذلك المجنون "أبو فلينة" الذي مات في العصفورية. وبحسب القصة فإن أبو طشت وحده كشف سر وفاته ونقلها للرواي. فقد سرق سيجارة وبرأي أبو طشت من يسرق سيجارة يسرق معمل تبغ. لا بل يكشف لنا أبو طشت بأنه هو من أخبر عنه في العصفورية، حيث تم هناك إنشاء محكمة، حوكم فيها أبو فلينة وحكم عليها بالإعدام شنقاً.
يسرد الكاتب "قصص أبو طشت" بحرفية، ممسكاً بمفاتيح القص، تاركاً لخاتمة القصة أن تأخذ القارئ معها، لأنّ خلاصة السرد ومفاجأة القصة هناك. وأبو طشت قد أتى من الطوشان والإغماءات التي تعرض لها بسبب تراكيب تأثير الكحول مع الأدوية المهدئة التي يدسها أهله في طعامه خلسة.
سخرَ الكاتب في عموم قصصه، من وعي جمعي متخلف، ما زال يجرّ المجتمع نحو الوراء، وتهكم بأسلوبه القصصي من الكثير من المفاهيم والمصطلحات والتقاليد والعادات التي تمتلئ بها حياتنا، ففي قصة ترويج سياحي مثلاً، يقوم أبو طشت بالترويج لرحلة سياحية لمشاهدة "الآدمي" يدفع له المجانين رسوم السفر وينتظرون وبعد عشرين عاماً تتم مطالبته بالمال أو بتنفيذ الرحلة، وهنا يتدخل الراوي، صديق أبو طشت وينقذ صاحبه من هذه الورطة فيسير بالمسجلين في الرحلة نحو مزبلة، وهناك يجد مكان رمي المرايا المكسرة، فيطلب من الناس أن يحمل كلّ واحد منهم مرآة ليشاهد عبرها الآدمي. نحن هنا أمام معنى مركب، لمجانين يصدقون أبو طشت، وعاقل ذهب بهم إلى حيث المزبلة، وكأنه يقول للجميع: هنا يجب دفن تلك المفاهيم المتخلفة.
في عالم ممتلئ بالتعب والضياع يشّق أبو طشت العاقل المجنون طريقه في الحياة معلناً أهدافه بوضوح فالذين يسكرون، يسكرون حتى يصبحون مثله بينما هو متفرد في جنونه وعقله
وهو يسرد لنا قصته "كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي" وعلى صعيد الإسقاط الفني للقصة، يضرب الكاتب عدة عصافير بحجرة واحدة، فيحكي قصة الاقتصاد السوري الذي جرى رهنه لدول أخرى بسبب غباء السياسة الاقتصادية للنظام السوري، وبالوقت نفسه يحكي هشاشة المجتمع الباحث عن شرب المتة وفصفصة البزر، فيبحث أبو طشت عن وسيلة لتصنيع آلات ألمانية تساعد الشعب على شرب المتة وفصفصة البزر. وكأنه هنا يقترب من حيث الهجاء، مما فعله مرة الشاعر نزار قباني في قصيدته خبز وحشيش وقمر.
في قصة" مجازر وجرابات ومسلسلات" يغيب أبو طشت ويحضر بطل آخر بدأ حياته التجارية من عالم تهريب الدخان على الأرصفة، إلى عالم سوق الهال والتجارة بالخضروات، ليصبح أخيراً منتجاً كبيراً للدراما، بطل القصة، المنتج المليونير، يتحكم بالدراما وبشخصيات مسلسله الرمضاني القادم ويسانده ممثلون ومخرجون، كل همهم جمع المال، وهنا يهجو الكاتب الوسط الفني الدرامي الذي يخدم السلطة، حيث يتحول الجميع هنا إلى خدم لتسلية المجتمع، حيث يسود اللامعنى في تلك المسلسلات.
أهدى الكاتب محمود كتابه إلى "ماريا لادنبورغر وأسرتها" وهي فتاة ألمانية عملت على مساعدة اللاجئين، كانت طالبة في كلية الطب، وقبل احتفالها بعيد ميلادها العشرين وجدت جثتها على ضفة نهر"دريزام" قتلت، اغتصبها لاجئ أفغاني ثم أغرق جثتها في نهر"دريزام". حوكم الجاني وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. أما أسرتها فقررت متابعة العمل على قضية ماريا وهي مساعدة اللاجئين، الذين على يد أحدهم حلّ بها ما حلّ. فكان التطرف تسامحاً، بإعلان أسرتها مؤسسة ترعى اللاجئين وتسمى ماريا.
خطر ببالي سؤال فوجهته للكاتب:
"هل نال كتابك هكذا تكلم أبو طشت حقه من القراءة والمتابعة الإعلامية أو النقدية؟ وفي حال كان جوابك سلبياً، برأيك لماذا؟".
اعتبرت هذا الكتاب بمثابة مغامرة أسلوبية، وتجربة آثرت تركها لمنطقها الخاص، كي تعلمني، وتصقل أدواتي في تجربة غيرها قد أقدم على خوض غمارها، ولأنني غير منتم لأية "شـــلة" إعلامية أو أدبية وإلى مناخات العصبيات المختلفة كان لذلك فوائد على مغامرتي هذه، إذ أتاح النأي بها وجعلها مستقلة عن السائد في الحياتين الثقافيتين العربية والسورية، من تكلف ومحسوبيات ذات دوافع مختلفة، تفعل في التجربة فعل العدسة المكبرة التي تظهرها بأضخم من حجمها.
حاولت التعاطي مع الجانب السلبي لهذا الشح في آراء النقاد بأن طلبت من أصدقائي موافاتي بانطباعاتهم عن هذا الكتاب، بعضهم لم تسمح له انشغالاته بالاستجابة، والبعض الآخر أرسل الملاحظات، والإطراءات، واحتفلت بها احتفال أرض عطشى بالمطر، مطر طبيعي، وليس استمطاراً صناعياً كما هو سائد.
مثلاً، فرحت أيما فرح بما قالته عن الكتاب شاعرة فلسطينية لا تربطني بها أي رابطة، من أي نوع، حين كتبت تعليقاً يقول: " كتاب جميل، زحمة من المتناقضات التي تحــيرك، واقفاً في المنتصف، المضحك- المبكي، السهل- الممتنع، الساخر- الصريح. كلما لمحته في مكتبتي ابتسمت تلقائياً".
احتفلت بهذا التعليق، العفوي، وسعدت به فكتبت على صفحتي: "هل تعلمون ماذا يعني أن يكون كتابي في مكتبة أحدهم أولاً، والأهم، ثانياً أنها -كما ذكرت الشاعرة في تعليقها- كلما نظرت إليه تبتسم (تلقائياً)؟ أثره باقٍ حتى بعد قراءته، بوجوده الفيزيائي المحض، فيرسم البسمة التلقائية! إن لم يكن هذا العيد، فما العيد إذن؟ انتهى كلام الكاتب!".
يسألون: ماهو وجعكم أيها المجانين؟ يحكي أبو طشت الحكاية:
"تريدون معرفة وجعنا؟ حسناً هذا وجعنا باللافتات: خذوا الحكمة من أفواه المجانين!
بالخطابات: خذوا الحكمة من أفواه المجانين!
لكن الحقيقة: خذوا اللقمة من أفواه المجانين! امنعوا الكلمة من أفواه المجانين!".
في عالم ممتلئ بالتعب والضياع يشّق أبو طشت، العاقل، المجنون، طريقه في الحياة معلناً أهدافه بوضوح، فالذين يسكرون، يسكرون حتى يصبحون مثله، بينما هو متفرد في جنونه وعقله، في مغامرته، في صبره، في تحمله غلاظة العقلاء وهم يطلبون منه أن يحرق بعض ذقته مقابل خمس ليرات. أبو طشت، ربما في كل واحد منّا نحن الذين ندعي التوازن بعضاً من أبي طشت.
مجتمع معجون بكل أنواع التناقضات، يكشفه أبو طشت ببساطة، أبو طشت الذي يكون طبيباً جراحاً في إحدى القصص، الجراح الذي يعرّي تخلف المجتمع ونقاط ضعفه وانهياره العام.
"هكذا تكلم أبو طشت"، حتى عندما غاب كشخصية عن بعض قصص المجموعة كان ظله يقول الكثير من المعنى.
في عالم ممتلئ باللامعنى نحتاج إلى القصة لنسخر من جنوننا ومن عقلنا المتعب. كأن الكاتب حسان محمود يحاكم العقلاء في عصفورية الحياة.