يجب أن نعترف بأنّنا ورثة فكر لم يعرف الدولة، ولم يفهمها بوصفها مؤسسات تدار من أشخاص تحددهم اللعبة الديمقراطية، فنحن لا نزال نراها – أي الدولة - على شكل تجمع رعوي تحكمه سلطة لا تقيدها الضوابط والقوانين، ولا تخضع للمساءلة والمحاسبة، سلطة مطلقة، تتجسّد بحاكم مطلق، لا يجوز التفكير أو العمل على تغييره، أو عزله مهما بلغ فساده وظلمه، خوفاً من الفتنة، أو خوفاً من قادم أسوأ منه.
لم تستطع ثورات الربيع العربي، ولا الفكر السياسي العربي المعاصر حتى اليوم أن يحقق القطيعة مع هذه الصيغة من السلطة المهيمنة الشمولية، ومع أساليبها، وأدواتها ويقينياتها، ولا يزال السؤال الذي ظهر منذ أيام الثورة الأولى يتردد حتى اليوم لدى السوريين وهو "أين هو البديل"؟
يحولون الدولة بكاملها إلى مجرد تقاسم جشع، ومتوحش لا يعرف ولا يهتم بما هو أساسي في وظيفة الدولة، أي حماية مواطنيها وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
كأننا لانعرف أن نعيش دون راع، وكأن الدولة لا تعدو كونها مزرعة تحتاج لمتحكم أوحد يقود جموعاً لا تعرف إلا الطاعة والقبول، والأدهى من كل هذا أننا لا نعيد النظر في حاجتنا للدولة الحقيقية حتى بعد أن عايشنا مرارا نموذج الحاكم الأوحد الذي يصبح هو وعائلته مجرد "مافيا" تتوزع المكاسب والمصالح، ويحيطون أنفسهم بالمنتفعين، ويحولون الدولة بكاملها إلى مجرد تقاسم جشع، ومتوحش لا يعرف ولا يهتم بما هو أساسي في وظيفة الدولة، أي حماية مواطنيها وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
في الأيام القليلة الماضية، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي حالتين لاثنين من عائلة الأسد، وبغض النظر عن مدى صحتهما، أو حجم الالتباسات التي قد تحكمهما، فإنهما تعكسان حقيقة يعرفها السوريون جيداً، لا سيما أنها تكررت مرات كثيرة في مقولات، وأحاديث وتصرفات أفراد هذه العائلة، وهي ذات دلالات عميقة، وتعكس إلى حد كبير بنية "النظام السوري" وحقيقة إدارته للدولة والمجتمع، والذي أثار استغرابي، ليس فحوى ما قاله هذان الاثنان، إنما هذا التجاهل التام من قبل كل أفراد هذه العائلة، ومن يتبعون لها لمجريات 13 عاماً، لم تبقِ في سوريا شيئا كما كان قبلها.
"رئاسة الجمهورية ليست لعبة يا بنت الأخرس"، هكذا تخاطب سيدة تدعى" هيلين جميل الأسد" السيدة "أسماء الأخرس"، زوجة وارث السلطة - بشار الأسد - عن أبيه الذي وصل إليها بانقلاب عسكري قبل خمسة وخمسين عاماً، وببساطة شديدة تقرر "هيلين"، أن تحدد من هو صاحب الحق في موقع رئاسة الجمهورية، وكيف يُدار هذا الموقع، ومن يحق له التحكم فيه، فهي لا ترى شعباً، ولا ترى دولة، وبكامل قناعتها ترى أن رئاسة الجمهورية موقع يخص عائلة الأسد وحدها، وهم وحدهم من يقررون كيف يُدار ومن يديره!
بكل بساطة ووضوح تعتبر "هيلين الأسد" أن سوريا مزرعة أسسها "القائد الخالد" كما تصفه، و"ليست مزرعة أبوكي يا أسماء"، وبالتالي فهي تقول بوضوح شديد "نحن أفراد عائلة الأسد لن نسمح لك بإدارة هذه المزرعة حتى لو قبل بشار الأسد بذلك"، وتهددها بعبارة واضحة " أنا أم حيدرة الأسد اسألي عني .. أنا لم أعد أحتمل صمت القائد عن التجاوز عنك".
لم تفكر "أم حيدرة"، ولم يخطر على بالها مطلقاً، أن تكتب أنها ومن أجل منع عبث "أسماء الأسد" وعائلتها "الأخرس" بالدولة السورية، أن تناشد أو تستقوي بمؤسسات الدولة للدفاع عنها، فهي لم تعترف يوماً بأن هناك قضاء، وبرلمانا، وجيشا، وشعبا، وإعلاما، ومثقفين وسياسيين و..و.. هم المخولون بالدفاع عن الدولة ودورها، وهي لم تر – كما كل أفراد عائلة الأسد – أن الشعب السوري يجب أن يكون له القرار الأخير في موقع الرئاسة، وفي الدولة وفي الدستور و..و.. إلخ.
في ظهور تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي للمدعو "وسيم الأسد"، يقترح ببساطة شديدة سحب الجنسية السورية من نصف الشعب السوري، وكأن سوريا هي ملك العائلة الأسدية بكل ما فيها حتى شعبها، ولا أريد هنا أن أفصّل من هو "وسيم الأسد"، ولا موقعه في الدولة، فهو باختصار لا موقع له، وهو مجرم وفق القوانين السورية، بل أريد فقط القول إن اختزال سوريا إلى ملكية خاصة بهذه العائلة، يُعتبر أمراً بديهياً لدى أفرادها.
من العبث في ظل الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم، الحديث عن أي صيغة للحوار مع هذه "المافيا".
بتكثيف شديد يٌمكن القول: إن المافيا الأسدية كما تخبرنا تصرفاتها، وتاريخها المعلن، والموثّق والمخفي لم ترقَ حتى إلى صيغة عمل المافيات المنظمة، وإنما تعمل بفوضى العصابات المنقرضة، وبغباء مطلق، وببلاهة تعود إلى عصور سلطانية استبدادية، تسبق كثيراً حتى عهود الاستعمار، وهي تسعى إلى السيطرة والهيمنة على البشر ومصائرهم، وعلى الدولة واقتصادها وثرواتها، عبر القتل، والنهب، والسلب، والحرق، والمقامرة والسمسرة، وعبر الانخراط في الأعمال غير المشروعة، والتي لا يقرّها أي قانون، والمحميّة من رأس المافيا، ومن مؤسسات "الدولة"، التي مُسِخت وتحولت إلى أداة بيده.
اليوم يمكن لأي سوري يبحث عن الدولة الحقيقية، بغض النظر عن رأيه في السياسة، وبغض النظر عن أي تصنيف له موال أو معارض، من هذا الدين أو ذاك، من هذه الطائفة أو تلك، من هذه القومية أو غيرها، إلخ، أن يلمس بوضوح شديد، كيف تحالفت أجهزة الدولة الرسمية مع المافيا الأسدية، ومع العصابات المنظمة التي نشأت برعاية هذه المافيا، وكيف تلاشت الدولة تماماً، وبالتالي تعطلت منظومة الحماية الطبيعية التي يفترض أن تقوم بها اتجاه أفرادها، لا بل أصبحت الدولة خصماً، وعدواً كونها أداة بيد المافيا وعصاباتها.
من العبث في ظل الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم، الحديث عن أي صيغة للحوار مع هذه "المافيا"، وهذا ما كان واضحاً منذ عقود لمن يريد أن يرى، وكان فاقع الوضوح منذ الأشهر الأولى من الثورة السورية، حين وجهت دبابات الجيش السوري مدافعها إلى صدور السوريين العُزّل، وهذا ما نلمسه يومياً في النهب الوقح والصفيق للسوريين، وفي تجويعهم وحرمانهم من أدنى مقومات الحياة.
وكي لا نخدع أنفسنا وشعوبنا، لا بدّ من إقرار السوريين جميعاً، بأن الدولة (التي لا بدّ منها) -إن أردنا لسوريا البقاء- لا تولد من رحم الشعارات والكلام، ولا تولد من رحم انتظار قرار ومناصرة الآخرين، ولا تولد من عصبيات ما قبل الدولة، وأننا أول ما نحتاجه ليس البحث عن طاغية جديد بلبوس جديد، بل نحتاج إلى اقتلاع هذه المافيا من سوريا، بكل أوجهها، وإعلاء سوريا فوق أي اعتبار آخر لنا.