أعاد الهجوم المسلح الذي نفذه حزب العمال الكردستاني الإرهابي في العاصمة التركية أنقرة الأحد الماضي وضع مشروع إنشاء منطقة عازلة على الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا على قائمة أولويات السياسة التركية في سوريا. على الرغم من أن هذا المشروع كان هدفاً أساسياً لتركيا منذ أول تدخل عسكري مباشر لها في سوريا في عام 2016، إلا أنّها لم تتمكن إلى اليوم من إنجازه بشكل كامل. ويرجع ذلك إلى مجموعة من التعقيدات التي واجهتها، ولا تزال، وتتمثل بشكل أساسي في المعارضة الثلاثية الروسية الإيرانية الأميركية لأي توغل تركي جديد في المنطقة، فضلاً عن الوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات، والذي يعمل كحماية للوحدات الكردية من أي هجوم تركي جديد. مع أن أنقرة قوّضت طموحات الوحدات الكردية بوصل مناطق سيطرتها في شرق الفرات بغربه وأضعفت إلى حد مُعين من القدرات العسكرية للتنظيم من خلال استهداف قادته عبر هجمات الطائرات بدون طيار، إلا أنّها لم تُحقق بعد هدفها المُتمثل في إنهاء الإدارة الذاتية للوحدات في المنطقة وإبعادها عن الشريط الحدودي بعمق ثلاثين كيلومتراً ونزع سلاحها.
كان تلويح تركيا المتكرر منذ عملية نبع السلام بشن هجوم جديد في شمال سوريا يهدف في الغالب إلى الضغط على الفاعلين الأساسيين في هذا الملف وهما روسيا والولايات المتحدة لتنفيذ التزاماتهما لها بإبعاد الوحدات الكردية عن الحدود التركية وإخراجها من بعض المناطق مثل تل رفعت وعين العرب "كوباني" والعمل على نزع سلاحها. في حين أن التقدم الذي حصل بهذا الخصوص كان متواضعاً للغاية ولم يرتق إلى مستوى الأهداف التركية، قررت أنقرة إحداث تحول في استراتيجيتها السورية منذ نهاية العام الماضي من خلال الشروع في حوار مع النظام السوري برعاية روسية من أجل خلق هامش أوسع لها للتحرك بهدف الوصول إلى هدف المنطقة الآمنة. حقيقة أن أفق المفاوضات بين أنقرة ودمشق يبدو مسدوداً وأن روسيا وإيران تعارضان بشدة أي توسع لنطاق النفوذ التركي في الشمال السوري وأن واشنطن لا تُظهر أية مؤشرات على إمكانية انسحابها من سوريا في المستقبل المنظور وفك ارتباطها بالوحدات الكردية، تُضعف إلى حد كبير من رهان تركيا على أن تؤدي الدبلوماسية النشطة التي انخرطت بها في الآونة الأخيرة مع كل من موسكو وطهران وواشنطن إلى تحريك الجمود في الستاتيكو العسكري القائم في الشمال السوري منذ عام 2019، والذي يعمل على تكريس القواعد الأساسية للصراع بين تركيا والوحدات الكردية بشكل يخدم جميع الفاعلين المؤثرين في هذه القضية باستثناء أنقرة.
الوسيلة الوحيدة أمام أنقرة لإزالة الخطوط الحمراء التي كبّلت دورها في الشمال السوري منذ عام 2019، هي العودة لاستخدام القوة من أجل فرض مشروع المنطقة الآمنة كأمر واقع
من جانب، يُعطي تردد أنقرة بشن عملية عسكرية جديدة إشارة لواشنطن وموسكو بأنها غير قادرة على تجاوز الحدود التي رسمتها التفاهمات الثنائية التي أبرمتها مع الطرفين بعد عملية نبع السلام. ومن جانب آخر، يُساعد هذا الوضع روسيا باللعب على التناقضات في هذه القضية من أجل تحقيق هدفين أساسيين، أولهما استخدام ملف الوحدات الكردية كورقة ضغط على تركيا لدفعها إلى الانخراط بشكل أعمق في استراتيجيتها الخاصة لإنهاء الصراع في سوريا وفق معاييرها مقابل وعود لها (لا تبدو عملية حتى الآن) بالتعاون معها في إنهاء خطر الوحدات عليها. وثانيهما تقديم نفسها بشكل غير مباشر كضامن جديد للوحدات الكردية بهدف إبعادها عن الولايات المتحدة. حقيقة أن المكاسب التي حققتها تركيا في صراعها مع الوحدات الكردية منذ عام 2016 لم تكن لتتحقق لولا العمليات العسكرية التركية التي فُرضت كأمر واقع على موسكو وواشنطن، تؤكد أن الوسيلة الوحيدة أمام أنقرة لإزالة الخطوط الحمراء التي كبّلت دورها في الشمال السوري منذ عام 2019، هي العودة لاستخدام القوة من أجل فرض مشروع المنطقة الآمنة كأمر واقع أو تحذير موسكو وواشنطن بشكل جدي بأن خيار العملية العسكرية الجديدة لن يبقى مُجرد ورقة ضغط عليها.
لا تزال الولايات المتحدة مُترددة في تقديم أي تنازلات لتركيا في مسألة الوحدات الكردية لأن مستقبل تأثيرها في الملف السوري مرهون باستمرار تحالفها مع الوحدات الكردية
من الواضح أن الوضع العالمي الجديد الذي أفرزته الحرب الروسية الأوكرانية خلق هامشاً إضافياً لتركيا لممارسة ضغط أقوى على روسيا والولايات المتحدة لدفعهما إلى التعاون معها في مشروع المنطقة العازلة. فمن جانب، أصبحت موسكو أكثر حاجة إلى مواءمة مصالحها في سوريا مع تركيا للحفاظ على علاقات المنافع المتبادلة خصوصاً في ظل العزلة الغربية عليها. ومن جانب آخر، فرض الصراع الغربي الروسي على واشنطن البحث عن مسار لإعادة إصلاح علاقاتها مع أنقرة بهدف تقويض علاقة المصالح التركية الروسية. كنتيجة لهذا الوضع، يُمكن ملاحظة بعض الآثار على الملف السوري لكنها لا تزال متواضعة. بينما تضغط موسكو على النظام السوري لمواصلة المفاوضات مع تركيا، فإن دورها في هذا المجال لا يزال محدوداً مقارنة بقدرتها. على العكس من ذلك، لا تزال الولايات المتحدة مُترددة في تقديم أي تنازلات لتركيا في مسألة الوحدات الكردية لأن مستقبل تأثيرها في الملف السوري مرهون باستمرار تحالفها مع الوحدات الكردية.
قد يندرج تلويح أردوغان مُجدداً باتخاذ خطوات جديدة لإقامة شريط أمني مع سوريا بعمق ثلاثين كيلومتراً في إطار استراتيجية الضغط على موسكو وواشنطن، لكنّ هجوم أنقرة الأخير وقبله هجوم إسطنبول، الذي اتهمت السلطات التركية وحدات حماية الشعب الكردية بالمسؤولية عنه في نوفمبر تشرين الثاني الماضي، يُظهر أن الطريقة الوحيدة لإنهاء خطر الإرهاب على تركيا أو الحد منه بفعالية أكبر، هي فرض المنطقة العازلة في شمالي سوريا سواء كان ذلك بعملية عسكرية جديدة رغم المخاطر التي تجلبها، أو بتحذير موسكو وواشنطن بأن هذه العملية ستُصبح خياراً وحيداً عندما تصل الدبلوماسية إلى طريق مسدود.