تُوصف الهجرة بكونها ظاهرة طبيعية في حياة البشر ووجدت منذ وُجِد الإنسان الأول على وجه هذه الأرض، ومن طبيعة الإنسان أنه يسعى دوماً لتحسين شروط وظروف حياته، وللهجرة أنواع كثيرة منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياحية أو العلاجية أو بقصد التعليم، ولكن تبقى الهجرة القسرية والاضطرارية أصعب أنواع الهجرات وأكثرها قسوة وتأثيراً في حياة المُهاجرين، والهجرة القسرية تخلق دائماً الصدمات لدى الشعوب التي تعيشها وذلك في بيئات النزاعات والحروب، وهذا حال السوريين منذ عام 2012 وحتى الآن، إذ إنهم فقدوا ويفقدون بيوتهم والأشياء التي اقتنوها على مدار السنين، وأصدقاءَهم وحتى عائلاتهم ووجدوا أنفسهم في لحظة يعيشون في بيئة مختلفة ونمط حياة مختلف ودولة مختلفة، وعندما نقول كلمة " الهجرة أو اللجوء " فإننا نستحضر كثيراً من عدم الاستقرار والخوف، ومهما كانت دوافع الهجرة وأسبابها فهي تظل بمنزلة الاقتلاع من الجذور لا سيما إن كانت مدفوعة بالخوف.
في كل يوم ثمّة أشخاص سوريون يتخذون أحد أصعب القرارات في حياتهم وهو مغادرة بلدهم أو بلد هِجرتهم الأولى إلى بلدٍ آخر بحثاً عن حياة أفضل وأكثر أماناً، وهم مرغمون على اقتلاع نفوسهم من تربتها، وترك الديار التي نشؤوا فيها وأسسوا لحياتهم وحياة عائلاتهم وأُسرهم، حيث لم يبقَ أمامهم سوى خيار الهجرة والفرار من حروبهم اليومية مع سلطات أمر الواقع ومع ظروف معيشتهم ومع انتهاكات حقوقهم كالتعذيب والاضطهاد والعنف والاعتقال، ولا سيما أن غالبيتهم أصبحوا مستهدفين بسبب مَن هُم وما يؤمنون به من آراء ومواقف .
بدأ شبح الخوف والموت حاضراً لدى السوريين منذ أن سفكَ النظامُ الحاكم أول قطرة دم على ثرى مدينة درعا حين قتلَ الشاب محمود قطيش الجوابرة بدم بارد وهو يشارك أبناء بلده بمظاهرة سلمية وسُمّي بالشهيد الأول للثورة السورية وذلك بتاريخ 18/3/2011 .
لم تكن حادثة القتل هذه سوى فاتحة لسلسلة من المواجهات الدامية والاستخدام المفرط للعنف ضد الأفراد والمجموعات والقرى والبلدات والمدن المنتفِضة في وجه المستبد، وأصبح القتل والحصار والتجويع أمضى أنواع الأسلحة التي واجه بها النظام احتجاجات مواطنيه، وهذا أورثهم الخوف والهلع ليبدؤوا موجات هجراتهم القسرية. وحين اتبع النظام سياسة حرق وتدمير المدن والأسواق والبلدات واستخدم سلاح الطيران والبراميل المتفجرة والمذابح الممنهجة دفع ذلك سكان تلك المناطق للفرار والبحث عن أماكن أقل خطورة وأكثر أماناً. أما بعد مقتل قرابة نصف مليون سوري واتساع نطاق المحرقة، تم فتح ممرات إنسانية مؤقتة للمناطق المحاصرة نتيجة ضغوط أو مؤامرات دولية لتشهد سوريا أكبر عملية تغيير ديموغرافي عبر هذه المعابر، حيث اعتبر معظم الناس أن هذه الفرصة لن تتكرر وهربوا من جحيم قوات روسيا والنظام والميليشيات المساندة، تاركين مقتنياتهم وأوراقهم ومستنداتهم وطعامهم على الموائد لعلهم يحصلون على فرصة نجاة. وبعد التدخل العسكري الروسي في أيلول من عام 2015 سار الناس على أقدامهم تحت النيران وغطاء بعض المصالحات، وشمل ذلك حمص وريف دمشق وبعدها حلب وريف درعا لتكتمل عملية التغيير الديموغرافي.
تحركت هذه المجاميع البشرية المدفوعة بالخوف باتجاه المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لعلّهم يجدون الأمان المفقود أو التفكير باجتياز الحدود إلى بلاد أخرى.
وبقدر ما كانت رحلة اللجوء والهروب مفعمة بالأمل والخلاص بقدر ما هي محفوفة بالمخاطر والخوف، فبعض الأشخاص وقعوا ضحايا الاتجار بالبشر أو العنف من قوات البلدان التي يمرون عبر حدودها أو مخاطر الغرق والمجازفة في ركوب البحر بوسائل نقل غير قانونية وغير آمنة وترافقهم المخاطر والتحديات حتى في بلدان اللجوء التي يقصدونها كالتمييز والعنصرية والتنمر، بالإضافة إلى أن الآلاف منهم قد فقدوا حياتهم في مسارات اللجوء والهجرة إلى مختلف دول العالم.
ما زال الواقع في الجغرافيا السورية نابذاً للحياة ودافعاً للفرار والهجرة، حيث يحكم هذا الواقع أربع سلطات تنفيذية فاشلة تحت نفوذ ثلاث دول غير آبهة بحال السوريين ولا مصيرهم، والقاسم المشترك الأسوأ بين السوريين في هذه المناطق هو توفر قوات الأمن وفقدان الأمان. وما زال السوري اليوم مهدداً بأمانه الشخصي والأسري ومُعرّضاً لخطر التجنيد الإجباري أو الاصطفاف الإجباري مع بعض الميليشيا أو الفصائل المسلحة، ومعرَّضاً للاعتقال التعسفي أو الاعتداء والسرقة والاستغلال، ومهدداً بأسباب معيشته وتوحش مجتمعه الذي دخل مسار الفوضى والانقسامات، مما جعله يفقد الأمل ويقع في اليأس والإحباط، لا سيما أن مسارات الحلول لقضيته باتت معطَّلة وارتبطت بحلول وقضايا صراعات دولية وإقليمية، والصراع مستمر وتدفق المهاجرين الخائفين لا يتوقف، وباتت سوريا اليوم الدولة الأولى من بين الدول الخمس المصدّرة للاجئين في العالم، وتوصف الحالة السورية بأنها أسوأ مأساة إنسانية دولية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد فرَّ أكثر من ستة ملايين شخص منها، ونزح مثلهم داخليًا، لجأ معظمهم إلى البلدان المجاورة، مثل تركيا والأردن ولبنان، ووصل ما يزيد على مليون لاجئ إلى أوروبا الغربية وجميع هذه المجموعات تحركت مدفوعة بالخوف ومحكومة بالأمل.
أما آن الأوان لوقف هذا النزيف البشري السوري من خلال إيجاد صيغة توافق وحلّ يجتمع حوله السوريون جميعهم، أرض سوريا أحقّ بأجساد أبنائها ومستقبلها أحقّ بزنود شبابها وعقولهم.