هجم مؤيدو النظام بقوة وحزم على محازبيهم الذين دعوا السوريين في الداخل إلى الهجرة، ففي البلاد التي واجهت الإرهابيين بحسب قول المهاجمين، تصبح فكرة المغادرة نقيضاً للانتصار، كما يمكن اعتبار دعاتها طابوراً خامساً، يجب اجتثاثه، حتى وإن كان محسوباً على النظام!
قيل الكثير عن هذا، وتلقفت وسائل إعلام المعارضة -كما هو دأبها-التفاصيل، وصنعت منها قصة، قامت عناصرها على شرح أسباب الداعين لمغادرة سوريا، وعرض ردود رافضي الأمر، وتشبيحهم، وتخوينهم، للآخرين!
مسألة الهجرة بذاتها تبدو عادية في سياقها، سيما وأن النقاش حولها بدأ منذ السنة الأولى للثورة، إثر تطبيق النظام لسياسة الحل الأمني ضد الثائرين، ما أدى في المحصلة إلى حدوث رحيل واسع، تجنب أصحابه في السياق مصيرين محتملين هما السجن والغياب في العتمة، أو الموت قتلاً برصاص الأجهزة الأمنية خلال التظاهرات!
في المهجر، حيثما حل السوريون، سنجد أن بعضهم يدخل هذه الأيام السنة العاشرة من أوقات منفاه، وهؤلاء ممن تم استهدافهم بشكل صريح وواضح، وتهديدهم بأحد المصيرين السابقين.
في المهجر، حيثما حل السوريون، سنجد أن بعضهم يدخل هذه الأيام السنة العاشرة من أوقات منفاه، وهؤلاء ممن تم استهدافهم بشكل صريح وواضح، وتهديدهم بأحد المصيرين السابقين
وأيضاً، يعثر المتابع على سوريين لم يكونوا يوماً ضد النظام، لكنهم فقدوا قدرة التعايش مع القلق الناتج عن حربه ضد الثائرين، واستخدامه العنف المفرط، فغادروا.
وبالإضافة لهؤلاء سيصطدم المرء بمؤيدين لا يخفون أهواءهم، لكنهم يعزون وجودهم خارج بلاد يحكمها "حبيبهم" الأسد، إلى أسباب اقتصادية، أو لأسباب اجتماعية وعائلية، وغير ذلك!
الكتلة الأكبر من السوريين الذين يعيشون في تركيا وفي أوروبا، ممن خرجوا بعد عام 2011، يعلنون أن السبب الرئيسي لما انتهى إليه مصيرهم إنما هو النظام. وليس الأسباب الاقتصادية.
كما أن ثمة فئة كبيرة، واجهت تهديدات بالموت على يد التنظيمات المتطرفة، فهربت من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. وأيضاً هناك أكراد فروا من سلطة الإدارة الذاتية، وآخرون هربوا من سيطرة الفصائل المرتبطة بتركيا، ولاسيما بعد دخولها إلى عفرين.
كل ما سبق لا يوحي بأن فعل الهجرة سهلٌ، وأن وقوع الإنسان فيه طوعي، لا يقترن بالخوف، بالإضافة إلى أن طرحه على شكل دعوات تنشر على شبكات التواصل الاجتماعي يتنافى مع وقائع راسخة، إذ لم يعد متاحاً وممكناً بعد عقد كامل من حدوث طلائعه، وبعد أن شددت كل الدول الإجراءات ضده، وأغلقت كل الأبواب المؤدية إليه.
لكن موجة الهجرة التي تمت الدعوة لها، من قبل شخصيات بارزة محسوبة على النظام، جاءت تحت عناوين شتى، تم ضربها بخلاط التوريات خشية حدوث مواجهة صريحة مع الأجهزة الأمنية التي تحصي أنفاس الجميع، وخلق لها عنواناً مبهماً هو: انسداد الآفاق!
قابل للفهم، أن يقوم سوريون معارضون صمدوا طيلة السنوات السابقة في وجه قمع الأجهزة الأمنية بتلمس رؤوسهم، وإعداد الخطط للرحيل، بعد أن ارتاحت آلات القمع، وصار لديها الوقت لاستدعائهم مراراً وتكراراً، وتنغيص حياتهم، فوق كل المنغصات المعتادة، من خلال محاسبتهم على آرائهم، ومعاقبة الصحفيين، والكتاب منهم على وجه الخصوص.
غير أن الأمر غير القابل للفهم، هو أن يمضي مؤيدون للنظام في مثل هذا المسار، وأن يعلنوا أسباباً شتى تدفعهم للمغادرة، دون أن يلمحوا فعلياً لجوهر الصخرة التي تسد الآفاق أمامهم، وكأنهم قد اكتشفوا الحقيقة قبل يومين أو ثلاثة!
بعض الأصوات التي تعالت بضرورة الهجرة، لم تفعل ذلك إلا بعد اللقاء الكارثي، الذي ظهرت فيه لونا الشبل مستشارة الأسد، وصرحت فيه بوضوح عن نوايا النظام، تجاه ليس معارضيه فقط، بل تجاه حتى من صمتوا، ولم يعلنوا تأييدهم له!
وفقاً لهذا، يتوقع المرء أن الهجوم على السيدة المستشارة، وهو ما تجرأ عليه مستاؤون، جاء ليوارب رغبات مضمرة بمكاشفة صريحة، مع سيدها، الذي يبدو فعلياً غير مكترث، طالما أنه قد ضمن بقاءه لسنوات سبع قادمة، من خلال دعمهم له، وبقوة السلاحين الإيراني والروسي!
بعض الأصوات التي تعالت بضرورة الهجرة، لم تفعل ذلك إلا بعد اللقاء الكارثي، الذي ظهرت فيه لونا الشبل مستشارة الأسد، وصرحت فيه بوضوح عن نوايا النظام
سقف المسموح في سوريا الأسدية، لمن يريدون أن يفتحوا أفواههم هو انتقاد الحكومة والوزراء والمحافظين ورؤساء البلديات، حتى وإن فتحت الطرقات من أجل تجمع أو مظاهرة، فإن غاية الأمر تتحدد بالممكن غير الضار أمنياً، ودعوة الجمهور إلى الهجرة لا تبدو ضارة بالنظام، رغم هوجة عتاة المؤيدين ضدها، بل إنها مفيدة له، وهي جزء من عملية طويلة الأمد لتغيير الديموغرافيا السورية، كما أنها تجنبه الإحراج مع الحلفاء، والروس منهم على وجه التحديد، الذين ما برحوا يدعون الأوربيين لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، فلسان حاله يقول: ماذا سأفعل لهؤلاء الذين لا يريدون البقاء؟!
تبعاً لما سبق، وبعيداً عن رغبات السوريين الذين يعيشون جحيم الأسدية، ويحق لهم التفكير والعمل على المغادرة، يمكن لأي مدقق ملاحظة أن طروحات مثل هذه، حين تصدر عن شخصيات نافذة، لا تعدو عن كونها جزءاً من مناورة لتحسين الظروف الذاتية، قاب قوسين من تشكيل الحكومة، أو شغور منصب يتدافع المتسابقون من أجله، خاصة وأن هؤلاء أنفسهم لا يهاجرون!
وفي أسوأ الأحوال، يمكن لفذلكة من هذا النوع أن تشوش على صغار رجال النظام، برسالة مفادها: لقد ذهبتم بنا إلى جهنم، وحان وقت رحيلكم، لنحل نحن محلكم!