رفضت السعودية، مثلها مثل بقية الدول العربية، التعاطي مع بشار الأسد طوال مدة تجاوزت العقد من الزمان بعد قمعه العنيف لانتفاضة الربيع العربي في بلده، حيث لجأ إلى قصف شعبه وتسميمه بالغاز وتعذيبه في خضم النزاع الذي تحول إلى حرب امتدت لفترة طويلة ولما تضع أوزارها بعد.
ولهذا عندما وصل وزير الخارجية السوري إلى السعودية يوم الأربعاء الماضي، بدت فكرة إبقاء نظام الأسد معزولاً عن الشرق الأوسط مستبعدة، إذ رحب وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، بمبعوث الأسد، فيصل مقداد، بابتسامة. وفي بيان مشترك، أعلنت الدولتان العربيتان عن مناقشتهما لخطوات تعمل على تسهيل عودة سوريا إلى الجامعة العربية، والبدء بإجراءات استئناف تقديم الخدمات القنصلية ورحلات الطيران. وخلال هذا الأسبوع أيضاً، أعادت تونس رسمياً علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا، وعينت سفيراً لها إلى دمشق.
توجه واضح تجاه التطبيع بلا موقف عربي موحد
وحول ذلك تعلق آنا جاكوبس، وهي محللة سياسية بارزة متخصصة بأخبار الخليج لدى المجموعة الدولية للأزمات، فتقول: "مايزال الأسد في السلطة، ولهذا يبدو التطبيع العربي مع دمشق كنتيجة لا مفر منها في هذه المرحلة، إلا أن الولايات المتحدة وأوروبا أعلنتا عن عدم رضاهما على تطبيع الدول العربية مع نظام الأسد، ولكن لا يمكنهما فعل ما هو أكثر من ذلك في هذا الصدد على ما يبدو".
خلال يوم الجمعة الماضي، اجتمع مسؤولون من الأردن ومصر والعراق في السعودية لمناقشة الملف السوري، في محاولة للتنسيق والخروج بسياسة حول هذا الملف قبل القمة العربية التي ستعقد خلال الشهر المقبل في السعودية، ويمكن أن يدعى إليها ممثل سوريا لأول مرة منذ بدء النزاع السوري قبل 12 عاماً.
يذكر أن الدول العربية قطعت علاقاتها مع الأسد قبل سنوات بعد فرضه لحصار على أحياء ومدن بأكملها بهدف إخضاع الثوار، كما أشرف على سلسلة السجون التي يُمارس فيها التعذيب والإعدامات الجماعية على نطاق واسع، فضلاً عن تسببه بنزوح الملايين من السوريين وتحولهم إلى لاجئين في دول الجوار.
إلا أن الدول العربية لم تجمع بعد على الطريقة التي ينبغي عليها من خلالها التعامل مع النظام السوري، وما هي التنازلات التي بوسعه أن يطلبها مقابل عودة العلاقات، إلا أن التوجه صار واضحاً.
بداية التحول في الموقف العربي
بدأ هذا التحول التدريجي قبل سنوات، بعدما طال أمد الحرب السورية وبقي الأسد متمسكاً بالسلطة، ولهذا اعتبر بعض حكام المنطقة فكرة إعادة العلاقات معه مسألة حتمية منذ عام 2018، وذلك عندما أعادت الإمارات العلاقات الدبلوماسية مع النظام.
أسهم الضغط الأميركي بمنع المزيد من الدول من اللحاق بركب الإمارات، بحسب رأي محمد علاء غانم، رئيس قسم السياسات لدى المجلس السوري الأميركي، وهو عبارة عن مجموعة مناصرة موجودة بواشنطن تعمل على مناهضة التطبيع مع نظام الأسد. وفي عام 2019، سنت الولايات المتحدة قانوناً يفرض عقوبات إضافية على حكومة النظام، ما شكل حاجزاً إضافياً أمام هذه الدول.
والأهم من كل ذلك، هو أن الدول التي لها وزنها على الصعيد السياسي في المنطقة، أي السعودية وتركيا ومصر، كانت ضد التعامل مع الأسد.
1. السعودية
إذ في البدايات، دعمت السعودية بعض فصائل الثوار السورية التي حاربت قوات الأسد، وأمدتها بالتمويل والسلاح بالتنسيق سراً مع الولايات المتحدة، إلى جانب استضافة رموز المعارضة السورية في العاصمة السعودية الرياض. كما اعتبر مسؤولو المملكة الأسد بمثابة بيدق بيد إيران، عدوة السعودية اللدودة في المنطقة منذ أمد بعيد، وأقرب الحلفاء لدى الأسد.
ومنذ ذلك الحين، والشرق الأوسط يشهد عملية إعادة ترتيب لأوراقه على المستوى الجيوسياسي.
فقد دفعت سلسلة من الهجمات التي دعمتها إيران لاستهداف السعودية والإمارات، يضاف إليها ما تبين لهاتين الدولتين بالنسبة للولايات المتحدة التي يبدو أنها إما غير قادرة على حماية حلفائها الخليجيين من إيران، أو لا يهمها أمرهم، كلتا الدولتين للتعاطي مع إيران بصورة مباشرة، وقد بلغت جهودهم في خفض التصعيد وحماية الاقتصاد ذورتها خلال الشهر الماضي، عندما اتفقت السعودية مع إيران على استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد سبع سنوات من العداوة الصريحة.
والآن، وبدل السعي لعزل إيران، أصبحت السعودية تسعى لتحقيق استراتيجية متعددة الأوجه تمزج بين التعاون مع إيران والجهود الساعية للتصدي لتمدد نفوذها في المنطقة، والتي تشمل سوريا، حيث بقيت إيران تقدم الدعم للأسد طوال الحرب. وخلال هذا الأسبوع، سافر مسؤولون سعوديون إلى اليمن من أجل إجراء محادثات سلام مع الحوثيين، وهم الثوار الذين تدعمهم إيران والذين ظلوا يحاربون التحالف الذي ترأسه السعودية منذ عام 2015.
ثم إن لدول الشرق الأوسط مصالح عديدة في سوريا.
إذ فر ملايين اللاجئين السوريين إلى دول الجوار، أي الأردن ولبنان وتركيا، وبعض الدول وعلى رأسها العراق، تفضل فتح المعابر التجارية مع سوريا، في حين ترغب أخرى بالسيطرة على تجارة الممنوعات، وخاصة تجارة الكبتاغون، الذي يتم تهريبه من سوريا إلى سائر دول الشرق الأوسط، وتعتبر السعودية أكبر سوق له.
2. تركيا
وحول ذلك يعلق جوشوا لانديز، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط لدى جامعة أوكلاهما، بالقول: "لكل دولة من دول الجوار مشكلاتها المهمة مع سوريا التي لابد لها من مناقشتها والتفاوض عليها".
بل حتى الشخصيات السياسية في تركيا التي بقيت على مدار سنين أشرس داعم للثوار السوريين الساعين لإبعاد الأسد عن السلطة، أخذوا يلمحون لتحول محتمل في العلاقات، إذ التقى مسؤولون أتراك على مستوى رفيع، بينهم وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات، بنظرائهم السوريين خلال الأشهر القليلة الماضية.
كما دعمت السياسة الداخلية التركية هذا التغير في اللهجة، وذلك بعدما زادت نقمة معظم الأتراك بسبب وجود عدد كبير من السوريين في بلدهم. وفي سباق الانتخابات الرئاسية التركية التي ستجرى في 14 من أيار المقبل، تحدث كل المرشحين البالغ عددهم أربعة عن سعيهم لإيجاد طرق من أجل إعادة السوريين إلى بلدهم.
الموقف القطري الثابت
يعتبر احتمال خسارة الملاذ الآمن في تركيا، أو خسارة دول الخليج في المعادلة، أمراً مخيفاً بالنسبة لغالبية السوريين، لاسيما المعارضين للأسد من بينهم.
إذ يقول رياض حجاب، رئيس الوزراء السوري الأسبق وأرفع سياسي انشق عن السلطة خلال الحرب: "إننا نلتقي مع العديد من الأطراف الإقليمية والدولية ونذكر الجميع بمخاطر عملية تسريع التطبيع غير المشروط مع نظام المجرم بشار الأسد"، ويقيم حجاب اليوم في قطر، إحدى الدول العربية القليلة التي ما تزال على موقفها المعارض بشدة لفكرة إعادة العلاقات مع النظام.
إذ أعلن رئيس وزراء قطر، الشيخ محمد بن عبد الرحمن، عبر إحدى المحطات التلفزيونية يوم الخميس الماضي بأن بلده لن تتخذ أي خطوة باتجاه الأسد قبل التوصل إلى حل سياسي للنزاع الدائر في سوريا، حيث قال: "ما يزال الشعب السوري نازحاً، وما يزال الأبرياء في السجون".
الزلزال والتغير في الموقف الدولي
بيد أن الزلزال المدمر الذي ضرب شمال غربي سوريا في شهر شباط قد تحول إلى نعمة سياسية هبطت على الأسد، ما أثار حفيظة مناوئيه من احتمال أن يكون ذلك بداية لإعادته إلى المجتمع الدولي دون أن تترتب عليه أية عواقب جراء الانتهاكات التي ارتكبها طوال الحرب.
بعد وقوع الزلزال، التقى مسؤولون عرب بالأسد، وأرسلوا أطناناً من المساعدات له، كما قامت الولايات المتحدة برفع القيود المصرفية على الحوالات المرسلة إلى سوريا طوال الأشهر الستة، وذلك لتسهيل وصول المساعدات إلى هناك.
ولكن حتى الآن، لم يظهر موقف عربي موحد بشأن سوريا، بحسب ما يراه حجاب، وذلك لأن كل دولة تعمل وفقاً لحساباتها.
إذ يوم الأربعاء الماضي، ناقش مقداد والأمير فيصل المساعدات الإنسانية والشروط المسبقة لعودة اللاجئين السوريين إلى بيوتهم سالمين والتعاون على محاربة الاتجار بالمخدرات، وذلك بحسب ما ورد في البيان المشترك، كما تطرق كلاهما للحديث عن ضرورة قيام الدولة السورية بإنهاء "التدخل الخارجي" ويحتمل أن يحمل ذلك إشارة ضمنية لإيران.
3. مصر
أبدت مصر ترددها تجاه فكرة عودة الأسد للحضن العربي، ولكن في مطلع هذا الشهر، التقى مقداد بنظيره المصري في القاهرة، في أول زيارة يقوم بها وزير خارجية سوري لمصر منذ أكثر من عقد من الزمان.
ومع تغير الموقف تجاه سوريا في المنطقة، تمسكت إدارة بايدن بشكل أكبر بموقف عدم التدخل.
"نظام الأسد يستحق أن يعامل كمارق"
لم تخطط الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات مع سوريا أو لرفع العقوبات التي فرضتها عليها، إذ في إحاطة قدمتها باربارة ليف مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، أوردت بأن حكومة الأسد: "تستحق أن تعامل كمارقة وهي كذلك في الواقع".
ومع ذلك، فإنه في حال تقارب الدول العربية مع الأسد، فلن تطلب الاستراتيجية الأميركية منهم أكثر من أن يحصلوا شيئاً مقابل ذلك، برأي ليف، حيث استشهدت بفكرة إنهاء تجارة الكبتاغون القادم من سوريا بوصفها شيئاً من البديهيات التي ينبغي على الدول أن تطالب بها.
أمّا الطلبات الأخرى فيمكن أن تشمل الحد من الوجود العسكري الإيراني في سوريا، ووضع شروط لتسهيل عودة اللاجئين بأمان إلى بلدهم، على الرغم من تشكيك مسؤولين أميركيين بالتزام الأسد بهذه الشروط.
إذ يقول جيمس جيفري الذي شغل منصب المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا أيام إدارة ترامب: "معروف عن الأسد بأنه يعد دون أن يفي".
في شهر آذار، وجه جيفري مع مجموعة ضمت مسؤولين أميركيين سابقين رسالة إلى الرئيس بايدن ووزير خارجيته أنطوني بلينكين اتهموا فيها الحكومة الأميركية بإهمال السياسة تجاه سوريا، كما انتقدوا إدارة بايدن لعدم تثبيطها لهمة الدول العربية فيما يتصل بإعادة العلاقات مع سوريا، حيث جاء في الرسالة: "إن معارضة التطبيع مع النظام بالكلام فقط لا تكفي، في الوقت الذي يعتبر فيه السماح بذلك ضمنياً عن قصر نظر وتحطيم لأي أمل بنشر الأمن والاستقرار في المنطقة".
في حين ذكر أنور البني، وهو محام سوري متخصص بحقوق الإنسان مقيم في ألمانيا بأنه لا يستغرب أن تقوم دول مثل الإمارات والسعودية حيث تحكم ملكيات مستبدة تسحق معارضيها في الداخل، بتغيير نهجها تجاه الأسد، حيث قال: "كانوا دوماً ضد نشر الديمقراطية في سوريا، والفرق هو أنهم خلعوا اليوم القناع الذي كانوا يرتدونه بالأمس".
المصدر: The New York Times