فوق أسطح البيوت، تبادلت قوات سوريا الديمقراطية "قسد "إطلاق النار مع العشرات من عناصر تنظيم الدولة الذين تمترسوا في سجن الصناعة المحاصر شمال شرقي سوريا يوم الخميس، بالرغم من أن "قسد" المدعومة أميركياً زعمت قبل يوم على ذلك أنها استعادت كامل السيطرة على المبنى.
إذ أعلنت قوات سوريا الديمقراطية يوم الأربعاء الماضي أنها استعادت السيطرة على سجن الصناعة في مدينة الحسكة بعد استعصاء آلاف ممن كانوا فيما مضى مقاتلين لدى التنظيم، بعد مرور أسبوع تقريباً على قيام زملائهم المقاتلين بشن هجوم على السجن في محاولة لإطلاق سراحهم.
ولكن عندما وصل صحفيون من صحيفة نيويورك تايمز إلى ذلك الموقع يوم الخميس، ليكونوا بذلك أوائل الصحفيين الأجانب الذين يغطون ما يجري في ذلك الموقع، كان القتال ما يزال دائراً.
إذ أطلقت "قسد" قذائف صاروخية على مبنى السجن الذي دُمر قسم منه، كما سمع هدير رشاشات مضادة للطائرات التي ركبت على شاحنات وهي تقوم بمواجهات مع نحو 90 عنصرا من تنظيم الدولة مايزالون يقاتلون من داخل السجن.
وذكر أحد المسؤولين لدى "قسد" أن معظم من صمدوا من المقاتلين كانوا من بين هؤلاء الذين اقتحموا السجن، إلا أن البعض منهم كانوا سجناء انضموا إليهم.
تنظيم الدولة.. عاد من جديد
يعتبر الهجوم على ذلك السجن أبلغ دليل حتى الآن على عودة تنظيم الدولة إلى مناطق في سوريا والعراق، بعد مرور ثلاث سنوات تقريباً على خسارته لمساحات شاسعة في كلا البلدين كانت تحت سيطرة دولة الخلافة المزعومة، كما صعّد المتطرفون من سلسلة هجماتهم على القوات العسكرية في دولة العراق الجارة خلال الأشهر القليلة الماضية.
بيد أن هذا الهجوم على السجن قام بجر الجيش الأميركي إلى النزاع دعماً لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حيث شن الجيش الأميركي غارات جوية، وزودهم بمعلومات استخباراتية، ومركبات مصفحة لتطويق السجن، فكانت تلك أكبر مواجهة بين القوات الأميركية وتنظيم الدولة جرت خلال السنوات الثلاث الماضية.
قوات قسد وهي تخرج جثة مقاتل لدى تنظيم الدولة من مدرسة قريبة من سجن الحسكة
وقد اندلع القتال يوم الخميس أيضاً في المناطق المحيطة بمبنى السجن. وبالقرب من دوار يقع في مركز مدينة الحسكة، التجأ فريق "نيويورك تايمز" بصحبة صحفيين محليين ومدنيين وجدوا أنفسهم في خضم تبادل النيران بين "قسد" ومسلحي التنظيم. حيث اندلعت تلك المواجهة النارية بالقرب من قاعدة صغيرة للجيش الأميركي تؤوي نحو 700 مجند في شمال شرقي سوريا.
وصرحت قسد بأن مقاتلَين تابعَين للتنظيم قتلا في الاشتباك الذي وقع بالقرب من الدوار، ولكن لا وجود لأية تقارير حول إصابة مدنيين خلال تلك المواجهة.
بيد أن مسؤولين لدى قسد لم يجيبوا على الأسئلة التي تتصل بتأكيداتهم التي صدرت يوم الأربعاء والتي تدور حول استعادة قواتهم للسجن بالكامل. في حين تحدث مسؤول لديهم يوم الخميس وقال إن من تبقى من عناصر تنظيم الدولة تمترسوا في أجزاء مختلفة من أحد أبنية السجن الثلاثة.
تمشيط للأحياء والبيوت
في أحد الأحياء القريبة انتشرت مئات العناصر من القوات الخاصة التابعة لـ "قسد" وأخذوا ينتقلون من بيت إلى بيت بحثاً عن السجناء الهاربين وعن عناصر تنظيم الدولة المختبئين.
وفي أحد الأزقة، قام قادة القوات الخاصة بصف رتل يضم عدداً من الشبان الذين أخذوهم من بعض البيوت القريبة من أحد الجدران وأخذوا يفتشون وثائقهم الثبوتية. كما طلبوا من الأهالي عبر مكبرات الصوت الخروج من بيوتهم، وترك أبوابها مفتوحة، أو قاموا بإجبارهم على فتحها بالقوة. وهكذا خلا معظم الحي من سكانه.
نزوح بالجملة
أما منظمة اليونيسيف للأطفال التابعة للأمم المتحدة فقد ذكرت أن القتال أجبر 45 ألفاً من أهالي تلك المدينة المؤلفة من مليون نسمة على النزوح من بيوتهم، ومعظمهم من النساء والأطفال. بعضهم توجه ليقيم مع أقاربه، بينما تقطعت السبل بالآخرين الذين انتقلوا إلى أماكن أخرى في تلك المدينة.
ومن أحد البيوت خرجت أم شابة مع طفليها مذهولة وخائفة، حيث ذكرت نسرين التي طلبت الإشارة إليها عبر اسمها الأول فقط خوفاً على سلامتها وأمنها، أنها كانت تحاول أن تدفئ طفليها عبر اقتراض الوقود من جارتها إلا أن الماء قطعت طوال الأيام العشرة الماضية.
وعندما سئلت عن سبب بقائها في بيتها في الوقت الذي رحل فيه معظم جيرانها، أجابت: "ليس لدينا مكان آخر بوسعنا أن نمضي إليه".
الأم الشابة نسرين مع ولديها
وإلى جانب مبنى السجن، خرجت جرافة من بين أطلال مركز ثقافي مجاور لمبنى السجن وهي تحمل كومة لجثة تعود لأحد مقاتلي تنظيم الدولة وذلك قبل أن تقوم برميها في الجزء الخلفي لشاحنة بيك آب صغيرة.
وعلى الطرف المقابل من الشارع، تمددت خزانات وقود لطخها السواد على أحد جوانبها، وكانت إحداها ما تزال في طور الاحتراق، وذلك بعدما استُهدفت بما وصفته قوات قسد بغارة جوية أصابت الأبنية المجاورة شنتها قوات التحالف العسكري الذي تترأسه الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة.
وبالقرب من بناء آخر يقع خلف المركز الثقافي الذي استهدفته الغارة الجوية، قام مقاتلو قسد بسحب بقايا عنصرين من مقاتلي تنظيم الدولة من بين الركام وما تبقى من المعادن المنصهرة.
حصيلة القتلى ومأساة الأطفال المجندين
في وقت سابق ذكر الناطق الرسمي باسم "قسد" يوم الأربعاء الماضي أن ما لا يقل عن 30 من مقاتلي "قسد" وما يربو على 100 مقاتل لقوا حتفهم في ذلك الهجوم، إلا أنه يعتقد بأن الحصيلة النهائية المتوقعة لعدد القتلى أكبر من ذلك بكثير.
أحد جنود المشاة الأميركيين وهو يتسوق في مدينة الحسكة
كما لم يتضح بعد مصير قرابة 700 فتى ذكرت "قسد" أنهم استخدموا كدروع بشرية على يد من شنوا الهجوم من تنظيم الدولة، وتتراوح أعمار هؤلاء الصبية ما بين 10-18 عاماً، وقد ظلوا محتجزين طوال ثلاث سنوات في ذلك السجن نظراً لانضمام أهاليهم إلى تنظيم الدولة، كما أن بعضهم قد جند على يد التنظيم ليتحول إلى مقاتل طفل لدى تنظيم الدولة.
إلا أن أحد المسؤولين الرفيعين لدى "قسد"، والذي تحدث بشرط التكتم على اسمه، قال إن هؤلاء الأطفال قد تم وضعهم في مبنى منفصل، لكنهم اختلطوا مع السجناء الراشدين خلال فترة الحصار، والبعض منهم حمل سلاحاً وتم دفعه للمشاركة في تلك الاشتباكات.
وهؤلاء الصبية الذين تعرضوا للاعتقال مرة أخرى أو استسلموا قد تم فصلهم من جديد عن السجناء البالغين، بحسب ما ذكره ذلك المسؤول.
مجرد تقديرات !
في حين يقول سياميند علي رئيس القسم الإعلامي لدى وحدات حماية الشعب ، وهي إحدى الفصائل التابعة لقسد، إنه لم يسمع بمقتل أي طفل من الرهائن في الاشتباكات وإن كل المعلومات حول ما جرى لكل السجناء ما تزال مجرد تقديرات.
وذكر أن أكثر من ثلاثة آلاف معتقل قد استسلم معظمهم وتم نقلهم إلى مقر احتجاز جديد بناه التحالف الدولي. وما يزال بعض عناصر تنظيم الدولة داخل السجن، وهؤلاء من المقاتلين الأجانب على الأرجح بحسب زعمه، ثم أضاف: "لقد أدى الهجوم على السجن إلى تنشيط الخلايا النائمة في مناطق أخرى".
"ستعودون إن أصغيتم إليّ!"
يذكر أن أهالي الأحياء المجاورة للسجن فروا أو أجبروا على ترك بيوتهم على يد قوات الأمن بعد هجوم تنظيم الدولة على السجن يوم الخميس الماضي بواسطة انتحاريين ومسلحين. وبعد مرور أسبوع على الهجوم، تجمع عشرات من العائلات عند نقطة تفتيش تبعد عن بيوتهم مسافة تقل عن كيلومترين، إلا أن قوات الأمن منعتهم من العودة نظراً لأن الخطر الذي هربوا منه ما يزال قائماً.
"ستعودون إن أصغيتم إلي!" هذا ما قالته ضابطة استخبارات ترتدي الزي العسكري وتضع شريطة رأس زهرية اللون وهي تصرخ أمام مجموعة من النساء أخذن يطلبن منها الإذن للعودة إلى البيت.
كما أخذت طائرات عسكرية تحلق فوق الرؤوس عندما افترشت تلك العائلات الرصيف الإسمنتي على أمل أن يفتح الطريق، بعضهم حمل معه أكياساً بلاستيكية فيها أرغفة من الخبز، ذلك العنصر الأساسي الذي بات من الصعب تحصيله في تلك المناطق، على أمل أن يحملوا خبزهم معهم عند العودة إلى بيوتهم.
تخبرنا فطمة ناصر، 25 عاماً، أنها بقيت هي وأطفالها الصغار الثلاثة عند أقاربها وأنها تتحرق شوقاً للعودة إلى بيتها.
أما ابنتها ماريا فقد أمسكت بدميتها البلاستيكية الرخيصة التي ترتدي ثوباً أسود حيك في البيت بخيوط صفراء خشنة، وقد تدلت يدها خارج جسدها.
فطمة ناصر وأولادها
في حين تقول فطيم عواد الجميل وهي امرأة أكبر سناً لديها تجاعيد عميقة ووشم يشير إلى قبيلتها على وجهها: "إنني أموت"، كما ذكرت أنها لا تعرف عمرها، وترتدي هذه المرأة وشاحاً بلون قرمزي داكن لفته بدبابيس لتضمن عدم انزياحه، وتقول لنا إنها سارت من أحد الأحياء الواقعة على تخوم المدينة برفقة بناتها وأحفادها على أمل أن تعود إلى بيتها، وتعلق على ذلك قائلة: "لقد غادرنا لأننا شعرنا بالخوف، إذ كنا نياماً عندما دخل تنظيم الدولة إلى الحي".
كما شهدت أن مقاتلي تنظيم الدولة قاموا بقطع رأسي اثنين من جيرانها بينهم ضابط في الشرطة وذلك بعد سيطرة التنظيم على السجن، وقد أكدت "قسد: قيام عناصر تنظيم الدولة بقطع رأسي شخصين في تلك المنطقة.
وتتابع فطيم فتخبرنا أن مقاتلي تنظيم الدولة غرباء عن المنطقة، وتقول: "لم يأتنا أحد من الأشخاص الموجودين داخل السجن، لأن هؤلاء ضعفاء، بل إن من أتونا أشخاص جاؤوا من البادية".
المصدر: نيويورك تايمز