من خلال رصده لأوضاع السوريين في تركيا، وسعيه الحثيث للحديث عن مآسيهم والتعبير عن أمانيهم، كتب الصحفي الأميركي جوشوا ليفكوفيتش، وهو عضو في معهد الشؤون الدولية الحالية، مقالة عن وضع السوريين في تركيا اليوم، جاء فيه:
السوريون هم المسؤولون عن وقوع الزلزال، هذا ما ذكره رجل تركي لسيف الدين سليم، وهو لاجئ سوري من حمص، يبيع الخضار في أنطاكيا، العاصمة الإدارية لولاية هاتاي التركية الواقعة جنوبي البلاد. على الرغم من تعرض متجر سليم للنهب بشكل كامل قبل أن يتمكن من الوصول إليه بعد وقوع الزلزال في شهر شباط الماضي.
ومما زاد الطين بلة حالة اللوم التي انتشرت عقب ذلك، إلا أن الأمر لم يكن جديداً، ولذلك لم يتفوه سليم أمام الرجل هذا الرجل بأي كلمة في معرض دفاعه عن أبناء جلدته بحسب ما أخبرني، وذلك لأنه يخشى من أن تتسبب أي مماحكة مع تركي بترحيله من البلد، ولكني عندما تحدثت إليه بعد أشهر من ذلك، صار الدم يغلي في عروقي، إذ لم يعد لديه المال ليأتي ببضاعة جديدة، ولهذا أصبح اليوم يحصّل رزقه بأي طريقة ممكنة، وذلك عبر إصلاح شاشات الهواتف النقالة أو تحويل الأموال بطريقة غير المتعارف عليها، والتي تعرف باسم الحوالة، وذلك في أثناء قيامه بعمله في متجره. كما أصبح مشرداً اليوم، ولهذا فهو ينام في متجره في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى ينام في خيمة تعود لأحد أصدقائه.
تؤوي تركيا أكبر عدد من اللاجئين في العالم، إذ بلغ عدد اللاجئين السوريين المقيمين فيها اليوم نحو 3.6 ملايين نسمة. وخلال السنوات الأولى من بدء النزاع في سوريا، اتبعت تركيا سياسة الباب المفتوح فتحولت إلى مصدر فخر لها، إذ أطرى عليها كثيرون بعد الرعاية العاجلة التي قدمتها للسوريين.
السوريون سبب كل الشرور
ولكن بعد مرور اثنتي عشرة سنة، وانهيار العملة التركية، وحالة التضخم الكبيرة التي تفشت في البلد، تغير المزاج العام، فارتفعت نسبة جرائم الكراهية، وظهرت تقارير وشائعات تتهم السوريين بالتسبب بعدد من المشكلات المتضاربة في البلد، فهم من يحصلون على رواتب من الحكومة التركية دون أن يعملوا، وهم السبب في زيادة عدد المتسولين في تركيا، وهم من تسبب بتراجع أجور الطبقة العاملة ورفع أسعار سيارات الأجرة، وهم السبب في انتظار الأتراك لفترات أطول حتى يحصلوا على الخدمات العامة، وهم من تلاعبوا بالأصوات في أثناء الانتخابات، وبسبب وجودهم حلت الكوارث الطبيعية على البلد!
تقع ولاية هاتاي في أقصى الجنوب التركي، على مقربة شديدة من سوريا، ولهذا بدأ السوريون بالعبور إلى هاتاي خلال الأيام الأولى للثورة في بلدهم، وعند وقوع الزلزال في الشتاء الماضي، كان هناك أكثر من 400 ألف لاجئ سوري يعيشون في هذه الولاية، ويمثلون نسبة الربع من عدد سكانها.
مأزق وأزمة
قد يفضل معظم السوريين، وعلى رأسهم سليم، الوصول إلى أوروبا، غير أن ما يمنعهم هو المال، فالسوري يحتاج لمبلغ يعادل تسعة آلاف دولار تقريباً حتى يدفعها للمهربين لقاء سفره بالبحر إلى أوروبا بحسب ما ذكره سليم، ولذلك بقي هؤلاء أسرى لهذا المأزق الذي جعلهم يعيشون في بلد يرفض وجودهم، دون أن يتمكنوا من الانتقال منه، أو العودة إلى بلدهم.
في هذه الأثناء، يمثل رئيس بلدهم، بشار الأسد، على الجميع بأنه عاد عودة مظفرة بعد فترة عزلة امتدت طويلاً، إذ في شهر أيار الماضي، حضر القمة العربية التي أقيمت في السعودية، لتكون تلك المرة الأولى التي يحضر فيها قمة عربية بعد مرور أكثر من عقد على عزلته. وفي حزيران، حقق اجتماع لمسؤولين من تركيا وسوريا وروسيا وإيران عقد في كازاخستان الهدف المعلن منه، ألا وهو تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا.
تركيا بين الاستقبال.. وإعادة السوريين
تعتبر مسألة إعادة اللاجئين إلى سوريا أهم دافع يقف خلف عملية التطبيع، ولكن في الوقت الذي قد لا يكون فيه السوريون على استعداد للعودة، يبدو أن دول الجوار مستعدة لإعادتهم.
في عام 2011، رحب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باللاجئين السوريين الذين وصفهم بالإخوة، لأنهم عبروا عن رؤيته لتركيا خلال مرحلة من المراحل، وقد حصل نحو 200 ألف سوري على الجنسية التركية بحسب ما أوردته الحكومة.
إلا أن الزمن تغير، إذ أعلن أردوغان عن خطته بعيد فوزه بالانتخابات الرئاسية في شهر أيار الماضي، والتي تقضي بإعادة مليون أخ وأخت سورية إلى الشمال السوري.
وقد ذكر أردوغان أن حكومته باشرت من قبل أمر تسهيل العودة الطوعية بالنسبة لنحو ستمئة ألف سوري، وفي عام 2022، أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش أن المسؤولين الأتراك أجبروا المئات من السوريين على التوقيع على وثيقة العودة الطوعية، ثم أرغموهم على عبور الحدود تحت التهديد (وذلك لأنه من الضروري لتركيا أن تدعي بأن عودة اللاجئين تمت بشكل طوعي إلى منطقة نزاع، لأنها ملزمة بحكم مبدأ عدم الإعادة القسرية الذي تنص عليه اتفاقية اللاجئين الموقعة عام 1951 بعدم إعادة أي لاجئ إلى منطقة نزاع رغماً عنه). وقد أخبرني السوريون في أنطاكيا بأن حالات العودة مستمرة، وبأن لهم أصدقاء عبروا الحدود واختفوا بعد ذلك.
وعلى الرغم من كل هذا، وبمجرد أن فاز أردوغان بالجولة الثانية من الانتخابات، تنفس معظم السوريين الصعداء، ففي أنطاكيا، مايزال البعض يرونه حليفاً بما أنه رحب بهم واستقبلهم في بلده، ومنهم خالد عمرو من حلب الذي جلس في خيمة زرقاء وأمامه المبنى المنهار الذي كان يقيم فيه، إذ قال لي هذا الرجل: "الذكرى السعيدة الوحيدة في هذا العام هي فوز أردوغان".
بينما ذكر آخرون بأنه سيكون من بين المليون مرحل الكثير من اللاجئين السوريين المقيمين في هاتاي نظراً لقربها من الحدود، ولهذا أخذ هؤلاء يتابعون أمور طلبات التقدم للحصول على الجنسية التركية، ويدفعون الرشى لتأمين ما يلزم من الوثائق أو للتسجيل في الجامعات التركية، أي لفعل أي شيء يبعد شبح الترحيل عنهم.
على قيد الانتظار
في أحد أيام الأحد، جلست أم لؤي، وهي أرملة تبلغ من العمر 65 عاماً، على مقعد في النادي الاجتماعي الحموي الذي أقيم على أطراف أنطاكيا من جهة الشمال، حيث جلست ثلة من السوريين للعب الورق وشرب المتة. تقدمت هذه المرأة في عام 2015 بطلب لإعادة توطينها في ألمانيا، حيث تقيم اثنتان من بناتها. وفي شهر شباط، توفيت ابنة أخرى لها برفقة أسرتها بسبب الزلزال، وفي شهر أيار، وصلتها أخيراً مكالمة هاتفية من ألمانيا تخبرها باقتراب موعد مقابلتها.
أمضت أم لؤي ستة أيام في البرد وهي تبحث عن جثث ذويها خلال شهر شباط حسبما روت لي، بيد أن انتظار أي شيء آخر أسهل على المرء، لأنها إن عثرت على جثثهم، فستكون من بين المحظوظين، إذ لم يعد أمام السوريين في المنفى سوى خيارات قليلة جيدة، بيد أن القائمة أصبحت أقصر يوماً بعد يوم.
في إحدى الأمسيات التي أمضيتها في أنطاكيا، أخذت أمشي بالقرب من عدد من الخيام، حيث أخذ بعض السوريين يصطلون حول النار والدفء من مخيم تصله إنارة جيدة أقيم للأتراك عقب وقوع الزلزال على الطرف الآخر من السياج، إلا أن أحداً منهم لم يفكر بالعودة إلى بلد ما يزال الأسد يحكمه، ولهذا تمنيت أن يسمع صوتهم أحد...
المصدر: New York Times