جاء الحل الأمني الذي اتخذه بشار الأسد منهجا لإسكات أصوات المعارضين لنظامه منذ آذار 2011، بنتائج كارثية على سوريا بكل جزئية فيها، ابتداء من البشر الذي بات يعيش 90 في المئة منهم تحت خط الفقر، وليس انتهاء بالاقتصاد الذي دخل مرحلة البرزخ بعد وصول قيمة الليرة السورية 4000 ليرة أمام الدولار الواحد.
وعلى الرغم من أن الأضرار الجسيمة التي لحقت وما زالت بالناس وبالاقتصاد وبالبنية التحتية للمجتمع السوري توثّق بشكل دائم، وتتحدث عنها كبريات المنظمات الحقوقية والإنسانية على رأسها الأمم المتحدة، إلا أن الحديث عن أحد الفاعلين الأساسيين بهذا الخراب يقل، فجيش النظام (الجيش السوري الذي تحول لأداة بيد بشار الأسد) لم يكن أحد المتسببين بنقل سوريا إلى خارج التاريخ الحالي، لجهة الدمار وتراجع مستوى المعيشة ونشر الموت، فقط بل تسبب بالخراب لنفسه تلبية لرغبة بشار وعائلته في البقاء بالسلطة.
والآن وبعد مضي عقد من الثورة السورية كيف أصبح الحال داخل هذه المؤسسة، إذا ما ألقينا نظرة عن قرب؟
جيش النظام لبّى نداء الأسد منذ بداية الثورة السورية
في عام 2011 بلغ عدد جيش النظام نحو 230 ألف مقاتل و300 ألف مجند، يتوزعون على أربعة فيالق، الأول قيادته في دمشق والثاني مركزه في الزبداني والثالث في حلب والرابع في حماة (روسيا استحدثت لاحقاً الفيلق الخامس)، هذا الجيش الذي تكونت نواته عام 1920 من مجموعة من المتطوعين الذين حاربوا الانتداب الفرنسي، وأُسس رسمياً سنة 1948.
خلال فترة الانتداب الفرنسي مرّ الجيش بعدة مراحل، وكان اسمه وقتذاك "الجيش المشرقي" وعدد أفراده لا يتجاوز 12 ألفا، إلى أن أصبح جيش الدولة السورية المستقلة عام 1948، حيث شارك في التاريخ نفسه في أولى الحروب بين العرب وإسرائيل.
وهو بصورة عامة يخضع لإمرة القائد العام للجيش والقوات المسلحة وهو رئيس الدولة ينوب عنه وزير الدفاع ويتألف من القوات البرية والبحرية والجوية.
مع بدء الثوار السوريين بتوسعة نطاق احتجاجاتهم لتشمل معظم المحافظات السورية، برز على الفور دور الجيش باعتباره حامياً للنظام وحجر الزاوية في بقائه وتماسكه، بعد أن قرر النظام تطبيق الحل الأمني والزج بالجيش في المدن والقرى والأحياء لقمع الثورة المطالبة بإسقاط حكم آل الأسد.
في البداية لم يكن جيش النظام جاهزاً عندما زجه بشار الأسد لمواجهة المتظاهرين، على الرغم من أن موجة الثورات العربية كانت تملأ المنطقة ومشاهد مشاركة الجيوش لحمايتها تارة وللتصدي لها تارة أخرى كانت حاضرة أيضاً، إلا أنه لم يكن أحد يتوقع أن تصل ارتدادات الربيع العربي إلى سوريا المحكومة منذ عقود بالحديد والنار.
في مراحل تدخله الأولى، لم يشهد جيش النظام أي تغيرات ملحوظة، على الرغم من حركة الانشقاقات الواسعة التي أصابته، ويعود ذلك إلى اعتماد نظام الأسد على ضباط يحظون بثقته لصناعة القرار العسكري على الأرض، وعدم وجود تغييرات أسهم أيضاً في تقليص احتماليات التصدع، بينما أثرت التطورات العسكرية اللاحقة في شكله مع دخول إيران وروسيا إلى الميدان.
صحيح أن جيش النظام لم يتعرض بشكل أساسي للتصدع كأن ينشق عنه ألوية كاملة أو كتائب، لأن ذلك، وفق مراقبين، يعود إلى اتخاذ هذا الكيان منحى طائفيا واضحا عقّد من عملية انشاق أعداد كبيرة عنه، كما أسس هذا المنحى منذ تدخل الجيش إلى أسلوب قمعي همجي من قبله ضد المناهضين لحكم الأسد، كانت علاماته واضحة في مجازر ستبقى محفورة في أذهان السوريين كـ (البيضا في بانياس والجورة والقصور بدير الزور والحولة في حمص وداريا ومجاز الكيماوي، وغيرها العشرات).
واليوم وعند النظر إلى هذا الجيش نجد أن من يشغل أهم 40 مركزا فيه هم من الطائفة العلوية، من القائد العام ووزير الدفاع مرورا بقادة الفيالق العسكرية وقادة الفرق وأجهزة الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع، بحسب دراسة لمركز "عمران للدراسات الاستراتيجية".
انتهج هؤلاء، حتى الساعة، الأسلوب القمعي الذي يهدف إلى قتل أكبر عدد من الرافضين للنظام، وحتى آذار 2020 وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مقتل نحو 200 ألف شخص على يد هذا الجيش وقواه الأمنية.
كيف تغير جيش النظام؟
مع نهاية عام 2013، نشر "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" في لندن، تقريراً حول وضع جيش نظام الأسد، جاء فيه أن تعداد الجيش تراجع إلى 178 ألفاً منهم 110 آلاف في سلاح البر، وخمسة آلاف في سلاح البحر، و27 ألفاً في سلاح الجو، و36 ألفاً للدفاع الجوي، مشيراً إلى أن تعداده قد بلغ 325 ألف رجل في 2009، منهم 220 ألفا في سلاح البر.
التقرير أضاف أن القدرات النظرية للجيش تراجعت بعد الثورة بسبب عمليات الانشقاق والفرار والخسائر التي لحقت به، لافتا إلى أن معظم التشكيلات قد تأثرت، وأن بعض الألوية اختفت، إما لأنها كانت تعتبر غير جديرة بالثقة من قبل النظام أو بسبب الخسائر الفادحة التي لحقت بها.
التقرير قال إن جيش النظام المجهز بعتاد روسي، كان بحوزته قبل اندلاع الثورة، 4950 دبابة ونحو 400 طائرة مقاتلة، مشيراً إلى أن هذا العدد تراجع كثيرا حتى عام 2014، أما قوات الدفاع الجوي فلم تتأثر كثيرا في المعارك، وفي حوزتها آلاف الصواريخ أرض-جو الروسية الصنع، والبعض منها جديد وفعال.
في أيار 2020 تراجع ترتيب جيش النظام خمس مراتب مقارنة بعام 2019، وحل بالمركز الثامن بين جيوش الشرق الأوسط، حسب تصنيف موقع "globalfirepower" العسكري.
ومع هذا التراجع احتل جيش النظام المرتبة 55 عالميا من أصل 138 دولة، قيّمت بناء على قدرتها الحربية الممكنة في البحر والبر والجو.
ودرس التقييم 55 عاملا موزعا على القوة البشرية والسلاح الجوي والبري والبحري مع الموارد الطبيعية والتسهيلات اللوجستية والجغرافية العامة المؤثرة في قدرة الجيش وفعاليته، وفق "globalfirepower"، الذي قدر قوام الجيش بـ 142 ألفا.
فيما لا يعرف العدد الحقيقي للدبابات والمدرعات والطائرات التي ظلت تعمل عند جيش نظام الأسد.
روسيا وإيران واللعب في بنية الجيش
مع مرور سنوات الثورة العشر شهد جيش النظام عدة تغييرات في بنيته، فأضيف له فيالق، وتنوعت الولاءات، واستعان بميليشيات محلية تم تأسيسها منذ بداية الثورة لتحمل على عاتقها مهمة وأد الحركة الاحتجاجية، لكن دورها تطور وتغير خلال السنوات الماضية.
ويعود التغيير في المستوى البنيوي لجيش النظام إلى روسيا وإيران، فمع اختلاف أهدافهما، وطريقة تنفيذها، أصبح جيش النظام مجرد ميليشيات متفرقة تدين بالولاء للجهة التي تنظمها وتديرها، وأصبحت مسألة الارتباط برأس النظام أمرا شكليا.
روسيا:
منذ تدخلها عسكريا بشكل رسمي إلى جانب نظام الأسد في أيلول 2015، لم يكن هدف موسكو أن توقف تمدد فصائل المعارضة في مساحات واسعة من الأراضي، فقط بل كانت تريد إدارة الملف بشكل كامل وهذا ما حصل، فُهمت، حينئذ، تحركات روسيا على تأكيد دورها على الساحة الدولية بوصفها قوة عظمى، خاصة وأن فلاديمير بوتين كانت يسوّق إلى أن تدخلهم "وقائي" لوقف الإرهاب، وسيقتصر على الطائرات.
لكن التغييرات على الأرض عكست أهدافاً روسيةً أخرى، إذ شرعت بإحداث تغييرات جذرية في هيكلية جيش النظام ليسهل عليها السيطرة على قراراته، إضافة إلى ممارستها ضغطاً على نظام الأسد لإصدار بعض القوانين والقرارات، منها ما يتعلق بقانون الخدمة العسكرية والاحتياط ومنها ما يتعلق بقرارات تسريح الضباط وتنقلاتهم.
البداية كانت في تشكيل "الفيلق الخامس" في 22 من تشرين الثاني 2016، وأرادت موسكو من تشكيله استيعاب الميليشيات المحلية في بنية تنظيمية عسكرية توازي نفوذ الميليشيات الإيرانية على الأرض، كما كان بند الالتحاق بـ "الفيلق الخامس" مقابل تسوية أوضاع المقاتلين في صفوف المعارضة حاضرا في جميع المفاوضات التي خاضتها روسيا مع الفصائل في "مناطق التسويات"، التي كان آخرها في تموز الماضي 2018 عندما انضم قائد فصيل "أسود السنة" في درعا، أحمد العودة، إلى الفيلق والذي أصبح لاحقا قائد اللواء الثامن فيه.
عملت روسيا أيضا على تدريب قوة عسكرية عرفت باسم "قوات النمر" التي يترأسها العميد سهيل الحسن، الذي كرمته وزارة الدفاع الروسية بـ "وسام الشجاعة" عام 2016، وفي آب 2019 غيرت اسمها من "قوات النمر" إلى "الفرقة 25 مهام خاصة- مكافحة الإرهاب".
وأثناء تزايد خسائر جيش النظام في المعارك ضد فصائل المعارضة، وتجذر إيران عبر ميليشياتها، بدأت روسيا بالإشراف على تدريب عناصر جيش النظام على الرمي الميداني وأجواء المعارك، إذ نشرت قناة "روسيا اليوم" تقريرا من تلك التدريبات، في 25 من أيلول 2018، بإشراف ضباط روس في محيط مدينة دمشق.
إيران:
نستطيع قراءة دور إيران في إحداث تغييرات في جيش النظام عبر عدة تحركات، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العناصر الإيرانيين كانوا أول المشاركين في عمليات قمع المتظاهرين عبر عمليات القنص التي كانت تشهدها معظم ساحات التظاهر في المحافظات السورية.
مع اتساع نطاق الاحتجاجات والذي ترافق مع بدء العمل المسلح في سوريا الذي جاء نتيجة إصرار النظام على استخدام الحل الأمني، عملت إيران على سياسة التغلغل في جيش النظام معتمدة على ميليشياتها التي شكلتها ومولتها وأصبحت خلال سنوات تنشط في معظم المناطق السورية.
وكانت سياسة إيران قائمة منذ البداية على التجذّر طويل الأمد في جيش النظام وحتى في النظام السياسي، إذ إن مصيرها في سوريا مرتبط بشكل مباشر بمصير النظام، وفق مراقبين، وعليه لجأت إلى دمج ميليشياتها في أهم القوى بالجيش كـ"الفرقة الرابعة" و"الحرس الجمهوري".
ودفعها التنافس على الجيش مع روسيا إلى دمج ميليشيا "قوات الدفاع الوطني"، التي شُكلت من الميليشيات التي كانت قد رعتها إيران بين عامي 2013 و2014، في بنية جيش النظام بشكل رسمي، بحسب وثيقة "من شعبة التنظيم والإدارة/ فرع التنظيم والتسليح" مرفوعة إلى "القائد العام للجيش والقوات المسلحة" بشار الأسد، وتم تداولها في عام 2017، وجاء فيها "تنظيم العناصر العسكريين والمدنيين الذين يقاتلون مع الجانب الإيراني ضمن أفواج الدفاع المحلي في المحافظات".
وأرفقت الوثيقة بجدول يُظهر أعداداً للعسكريين المتخلفين عن الخدمة الإلزامية والاحتياطية والفارين والمدنيين ومن "سوّي وضعهم" بحسب المحافظات، ونصت على أن تبقى قيادة أفواج الدفاع المحلي في المحافظات العاملة مع الجانب الإيراني، بالتنسيق مع القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة "حتى انتهاء الأزمة في الجمهورية العربية السورية أو صدور قرار جديد".
لم يقتصر دور إيران على تنظيم الميليشيات ودمجها، بل وقعت العديد من الاتفاقيات العسكرية مع نظام الأسد محاولة من خلالها الهيمنة أكثر على مؤسسة الجيش، كان أبرزها في آب 2018، حين وقعت اتفاقية للتعاون في المجال العسكري، تنص على تقديم كل أشكال الدعم للنظام لإعادة بناء القوات المسلحة والصناعات العسكرية الدفاعية السورية، بما في ذلك الصواريخ.
وكالة أنباء "تسنيم" الإيرانية، نقلت، حينئذ، عن وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي قوله إن "الاتفاقية تهدف إلى تعزيز البنى التحتية الدفاعية في سوريا، وتسمح بمواصلة الوجود والمشاركة الإيرانية في سوريا"، واعتبر حاتمي أنه من خلال هذه الاتفاقية مهدت إيران الطريق لتبدأ بإعادة بناء الصناعات الحربية السورية.
وإلى جانب ميليشياتها تمتلك إيران منذ 2011 ووفق تأكيداتها الرسمية، مستشارين عسكريين، وخبراء من "الحرس الثوري"، الذين يعملون مع جميع أجهزة الأمن وقطعات جيش النظام، ولعب هؤلاء المستشارون دورا مهما في تعزيز تحالفات طهران مع قياديين عسكريين من النظام كقائد "الفرقة الرابعة" اللواء الركن ماهر الأسد، وقائد "الحرس الجمهوري" اللواء طلال مخلوف، والقائد السابق لـ"المخابرات الجوية" اللواء جميل الحسن.