مع إعلانها قرب صدور مرسوم تنظيم منطقة القابون بموجب القانون رقم 10، وسحبها محولات الكهرباء من المنطقة الصناعية هددت محافظة دمشق أصحاب 750 مصنعاً بختم أيّ مصنع بالشمع الأحمر، لم يتوقف عن العمل، أو واصل أصحابُ مصانعَ أخرى قيد الترميم أعمال الصيانة فيها بحسب ما أكدته مصادر في القابون لموقع تلفزيون سوريا.
وأوضحت المصادر أنَّ عدد المصانع التي بدأت العمل بعد ترميمها خلال السنتين الماضيتين بلغ نحو 400 مصنع من أصل 750 مصنعاً؛ يعملون في إطار الصناعات المتوسطة والصغيرة، وبدؤوا إنتاج سلع نسيجية بمختلفِ أنواعها، وأخرى بلاستيكية، ومدافئ وسخاناتٍ، وسلعٍ أخرى، وقد طُلب من أصحاب جميع المعامل نقلها إلى مدينة (عدرا الصناعية).
وترافقت الضغوط الأخيرة على الصناعيين مع تصريحات أدلى بها عضو المكتب التنفيذي في محافظة دمشق فيصل سرور لصحيفة الوطن التابعة للنظام، ولوح فيها بالورقة الأمنية إن لم يَنقلِ الصناعيون مصانعهم إلى مدينة عدرا، إذ قال: ليس لنا ثأرٌ مع أهالي القابون ولكن عليهم نقلُ مصانعهم، لأنَّ إجراءات إصدار مرسوم " تنظيم منطقة القابون " هي الآن في مراحلها الأخيرة ، وأشار إلى أنَّ دمشق ليست مدينة صناعية، بل إنَّ هويتها الآن هويةُ مدينةٍ تجارية ومال وأعمال.
كيف بدأت أزمة المنطقة الصناعية في القابون؟
وتعود أزمةُ المنطقة الصناعية في القابون إلى نحو ثلاثِ سنوات، أي بعد أن سيطرت قواتُ النظام على المنطقة التي تعدُّ مع حيّ جوبر الدمشقي البوابة الغربية لغوطة دمشق الشرقية، حيثُ زارها وفدٌ وزاري برئاسة رئيس الحكومة السابق عماد خميس في 21 حزيران عام 2018، وطلب من الصناعيين بعد معاينة مصانعهم العمل سريعاً بالإنتاج، ووعدهم حينئذ بإعادة تأهيل المنطقة، وإيصال الماء، والكهرباء، وخطوط الهاتف، خلال مدة شهرين، وأكدَّ للصناعيين أنَّ التنظيم لا يشمل المنطقة الصناعية، ولا سيما أنَّها مرخصة ومصانة دستورياً ، بل إنَّ التنظيم يتعلق بالمناطق العشوائية ، وعلى هذا الأساس بدأ عددٌ من الصناعيين أعمال ترحيلِ المخلّفات، وتنظيف المنشآت، والترميم، والإكساء، وشراء ماكينات، وإصلاح التالف منها.
وبعد نحو شهر على زيارة (خميس) فوجئ الصناعيون بإصدار مجلس الوزراء توصيات مناقضة لما وعد بها، وذلك خلال جلسة عقدها المجلس بتاريخ 26 آب 2018 تضمنت بحسب ما جاء في محضر الجلسة الذي حمل الرقم 9714/ 1/ تكليف محافظة دمشق إيقاف جميع أعمال تأهيل البنى التحيتة في منطقة القابون الصناعية، ووقف منح رخص الترميم للمباني العامة، والخاصة، وإخلاءُ جميع المنشآت الصناعية، وتمَّت إحالة تلك التوصيات إلى كلّ من محافظتي دمشق وريفها، وغرفة صناعة دمشق للتنفيذ. وهو ما عادت وزارة الإدارة المحلية تأكيده في كتابٍ موجهٍ إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء بتاريخ 26/ 12 / 2018 بعد أن تقدم الصناعيون بشكاوى عدة، إلى مجلس الوزراء، ومجلس الشعب عن طريق وزارة الدولة لشؤون المجلس.
ما الذريعة التي ساقها النظام لهدم المنطقة الصناعية؟
وبحسب مصادر محافظة دمشق فإنَّ توصيات هدم المنطقة الصناعية بالكامل تمهيداً لتحويلها إلى ضاحية سكنيّة، وتجارية جاءت بذريعة أنَّ نسبة الدمار فيها من جراء الحرب قد بلغت نحو 80% ، وعلى هذا فإنّها تدخلُ ضمن إطار القانون رقم 10، الذي يجيز للوحدات الإدارية تنظيم مناطقَ مدمرةٍ بهذه النسبة، إلا أنَّ الصناعيين كلَّفوا لجنةً من نقابة المهندسين لفحص نسبة الأضرار، وأصدرت تقريراً مصدقاً من وزارة العدل أكدت فيه أنَّ نسبة الدمار لا تتجاوز الـ 20%، وأنَّ المنشآت الصناعية تحتاج إلى عمليات ترميم بسيطة بحسب ما أعلنه في وقت سابق رئيس لجنة القابون الصناعية عاطف طيفور لصحف محلية.
وبعد تقرير لجنة نقابة المهندسين توقفت محافظة دمشق عن الحديث عن المنطقة الصناعية، ما دفع بعض الصناعيين إلى الاطمئنان بأنَّ المنطقة الصناعية ستبقى واستأنفوا أعمال الترميم، والإصلاح، وصيانة المعدات، واستجرار أخرى والبدء بالإنتاج الذي شمل نحو 400 مصنع، إلا أنَّهم صدموا بإبلاغهم من قبل بلدية القابون وجوبر، بوقف العمل والتهديد بختم معاملهم بالشمع الأحمر.
الصناعيون: تسهيلات محافظة دمشق للصناعيين في عدرا وهمية
وتقول مصادر محافظة دمشق : إنَّ هناك تسهيلات للصناعيين لنقل مصانعهم إلى عدرا بشرط أنْ تستحق الدفعة الأولى لثمن الأبنية التي يشترونها لإقامة مصانعهم فيها بعد أربع سنوات من بدء العمل، والأقساط المتبقية تسدد خلال 10 سنوات، بحسب ما أعلنه فيصل سرور لتلفزيون النظام الرسمي، في حين يؤكد الصناعيون أنَّ التسهيلات المشار إليها هي وهميةٌ هدفها حمل الصناعيين على التوقيع على تعهدات بالانتقالِ إلى مدينة عدرا، والتي لا يوجد فيها أبنية بالأساس بل هي مجرد أرضٍ بورٍ معدة للبناء، وليست بالأصل ضمن مدينة عدرا الصناعية بل هي ملحقة بها وتبعد عن دمشق نحو 65 كيلو مترا، وخالية من البنى التحتيةِ والخدميَّةِ، وتحتاج لسنواتٍ كي يتم إنجازها، وأيضاً لا توجد قروضٌ صناعيةٌ على أرض الواقع إنَّما هي مجرد كلام شفهي، كما قال (عاطف طيفور) لقناة سما الفضائية.
ويوضح طيفور أنّه على فرض قَبِلَ الصناعيُّ بنقل معمله إلى عدرا فإنَّه سيدفع تكاليف البناء، والخدمات أي أنَّه سيبدأ من جديد، وهذه التكاليف ستحمل على الإنتاج الذي لم يبدأ قبل عدة سنوات ما يزيد من سعر المنتج على المستهلك، مشيراً إلى أنَّ الموضوع يستهدف الاقتصاد الوطني بشكل أو بآخر، ومتسائلاً كيف يمكن أن يتم تدمير 750 مصنعاً جاهزاً للعمل، والإنتاج يوفر عشرين ألف فرصةَ عملٍ، ويؤمن العملة الصعبة للاقتصاد الوطني، من أجل تجميل مدخل المدينة وإقامة أبراجٍ سكنية وتجارية، وقال إنّ ما يحدث هو ليس إعادة إعمار، بل هو تدميرُ ما تبقى من المعامل التي تحتاج إلى كلفة بسيطة للإنتاج، مشيراً إلى أنَّ هدم المعامل هو سيرٌ بعكس مسار القوة الصناعية، وتحويل الصناعيّ إلى قطاعات أخرى كالعقارات، وتجارة السيارات وغيرها.
ويرى الكاتب والصحفي المتخصص بالشأن الاقتصادي ( تامر قرقوط) أنَّ الدول المتقدمة صناعياً تعتمد على الشركات الصغيرة، والمتوسطة، إذ إنَّها تساهم بنسبةٍ لا تقل عن 80 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول، لأنَّها تتمتع بمرونة كبيرة، وقدرات فائقة، وتتميز بحجم عمالتها، ومساهمتها في رفد خزانة الدولة بالقطع الأجنبي من خلال التصدير، أو تأمين احتياجات السوق المحلية. ولذلك تسعى الدول إلى تنشيط هذه الشركات، وتقديم التسهيلات لها.
ويقول قرقوط لموقع تلفزيون سوريا: " إنَّ المشكلة في سوريا هي أنَّهُ لا يوجد تنظيم للقطاع الصناعي، والمدن الصناعية كلفتها كبيرة بالنسبة لصناعيي هذه الشركات، وهو ما لا قدرة لهم عليه، ومن المفترض أنْ يتمَّ تجميع كلّ الشركات الصناعية، وفقا لقاعدة العناقيد الصناعية، ما يسهم بشكل كبير في تخفيف الكلف الإنتاجية، ولتحقيق هذا الشيء لا بدَّ من دعم الشركات القائمة، ومنها شركات القابون، بقروض ميسرة وسهلة السداد لتغطية كلفة الانتقال.
ويضيف قرقوط: إنّ هناك شروطاً لنقل هذه المصانع من أبرزها تقديم الدعم لمالكيها لينجزوا نقلها دون كلفة زائدة تؤدي إلى إغلاقها، ويقول إنّه من غير المناسب أن تبقى الورش الصناعية في الأماكن السكنية خاصة من جهة الأمن الصناعي.
ويقول صناعيو القابون: إنَّ مصانعهم تشغل عقارات مرخصة بشكل نظامي " طابو أخضر "، ولديها تراخيص صناعية، وتجارية منذ عشرات السنين، وتقدر أثمانها بمليارات الليرات، وإنَّ طلب حكومة الأسد نقلها من أجل إقامة مشاريع تجارية وسكنية على أنقاضها أمر مخالف للقانون، والدستور الذي يضمن حماية الملكية الخاصة، ولا سيما حين يستهدف صناعات عريقة تزود البلاد بالسلع، وإنَّ إقامة أبراجٍ وأسواقٍ تجارية بدلا عنها، هي بمثابة مكياج للمدينة على حساب تلك الصناعات بحسب وصف صفحة (صناعيو القابون ) على فيس بوك.
ويرى المحامي (غزوان قرنفل) مدير تجمع المحامين السوريين أنَّ الملكية الخاصة محمية بنصوص الدستور وما تشرعه القوانين، ووجود طابو بملكياتهم يحمي حقوقهم لكنَّه لا يُلغي حق الدولةِ في إعادة تنظيم منطقة مع حفظ حقوق الملاك فيما يملكون.
ويقول المحامي قرنفل لموقع تلفزيون سوريا : " إنَّه في حالة القابون فإنّه إذا رغب أصحاب المصانع الحصول على مساحات عمرانية بدلاً عن المساحات التي يفقدونها، فإنّه يتم تقييم قيمة مساحات تلك المصانع في القابون، وتقييم قيمة ما سيحصلون عليه في عدرا وعليه فإنَّ على الدولة أن تدفع لهم فارق السعر، أو أن تعوضهم الدولة بما يعادل ما يملكونه من مساحات بنفس المنطقة، ولكن ليس ليمارسوا فيها عملاً صناعياً، وبهذه الحالة هم ملزمون بنقل أعمالهم الصناعية للمنطقة الصناعية بعدرا على أنْ يدفعوا للدولة ثمن المساحات التي سيشغلونها لأعمالهم باعتبارهم قد استوفوا حقوقهم من منطقة القابون عيناً.
القابون وجوبر من بين مناطق التطوير العقاري
وأدرج النظام منطقة القابون وجوبر ضمن مناطق التطوير العقاري الجديدة في دمشق، والتي تتضمن أراضيَ تابعة للقطاع الخاص، وأخرى للقطاع العام يجري إعداد صكوك قانونية لحلّها كالشركة الخماسية التي تمتدُّ على مساحات واسعة في القابون، وشركة الصناعات المعدنية (بردى)، وعقارات شركة (غراوي)، أو شركة المغازل التي تم هدمها فوق آلياتها ومعداتها، إضافة إلى مناطق السكن العشوائي التي دمَّر النظام معظمها، ولا سيما في مناطق بساتين الرازي التي خصها بالقانون رقم 66 للتطوير العقاري.
ويعتزم النظام إقامة مشروعين سكنيين، وتجاريين كبيرين في تلك المناطق هما ماروتا سيتي وباسيليا سيتي، بموجب القانون رقم 10 الذي وسّع نطاق المرسوم 66 لجهة تشريعه مصادرة أملاك المهجرين سواء كانوا نازحين أو لاجئين، ويستهدف خصوصاً المناطق المتاخمة للعاصمة، والتي شهدت كبرى المظاهرات ضد النظام مع بداية الثورة السورية.
ويضع النظام ثقله من أجل تنفيذ المشروعين اللذين يستحوذ عليهما رجالُ أعمالٍ كُثر، من بينهم محمد حمشو عضو مجلس الشعب السابق، وأمينُ سر اتحاد غرف التجارة على حصة استثمارية كبيرة فيهما، إذ سبق لحمشو أن جال في منطقة القابون بُعيد رفض الصناعيين إزالة مصانعهم قبل نحو عامين، وأبلغهم بأنَّ الحكومة مصرةٌ على التنفيذ طالباً منهم التوقيع على تعهدٍ بالإخلاء عند الطلب.
أصحاب المعامل الـ 750 وقعوا اتفاقاً بينهم بعدم إعطاء أيّ تعهدٍ للإخلاء مهما كانت صيغته، محذرين الجهات الحكومية من محاولة ممارسة أيّ ضغوط على أيّ صناعيّ بشكلٍ فردي للحصول على توقيعه بالإخلاء، إلا أنَّ النظام يبدو مصراً على إصدار مرسوم "تنظيم المنطقة "، وقد بدأ التلويح بالورقة الأمنية، ما يجعل التطورات تتجه إلى فرضِ أمرٍ واقعٍ بقوة الحلّ العسكري، وهي الصيغة التي يتبعها لحلّ القضايا المختلفة، وبالتالي استبعاد أيّ حلّ وسطٍ واقعيّ من شأنه أن ينصف الصناعيين، ونحو عشرين ألف عاملٍ تعدُّ تلك المصانعُ مورد رزقهم الوحيد.