تنتشر ثقافة العنف في المجتمع السوري إلى حد جعلها من المسلمات وتحت مسمى العلاقات الطبيعية بالنسبة لجزء من المجتمع السوري، وينطبق ذلك خصيصاً على التعامل مع المرأة والأطفال، إذ يجد الرجل لنفسه الحق بـ"تأديب" الزوجة أو الأخت، وتقتصر ردود فعل الأهل على المواساة وطلب الصبر من ابنتهم في حال أتت شاكية، إذ حتى الضحية لا تعتبر أن العنف ضدها يستحق الشكوى إلا عند التعرض للأذية الجسدية البالغة.
استنكر السوريون حادثة مقتل "آيات الرفاعي" التي قضت بعد أعوام من التعرض للعنف المستمر من زوجها ووالديه، إلى أن توفيت بضربة على الرأس، بشكل "فاجأ" معنفيها الذين لم يعتقدوا أن فعلهم لا يجوز ولم يحسبوا عواقبه، لكن حكاية آيات تشبه ما تمر به الكثير من النساء والفتيات السوريات، وإن لم تصل حالات الإصابة البالغة إلا لنسبة بسيطة، حسب تقدير الأمم المتحدة، إذاً لمَ كان الاستنكار؟
حوادث "معتادة" وأهل "مرتاحون"
قابل موقع تلفزيون سوريا عدداً من النساء اللواتي يتعرضن للعنف من قبل أزواجهنّ، وشاركن قصصهن وردود فعل أهلهن، بشرط الحفاظ على خصوصيتهن وإخفاء هويتهن.
"لم أجد أمامي خياراً سوى الانتحار أو الهرب"، هكذا وصفت هاجر الطريق المسدود الذي وصلت إليه مع زوجها، بعد خمس سنوات من التعنيف المستمر، لم تهنأ خلالها سوى بالأشهر الثلاثة الأولى من زواجها، قبل أن تتعرض للضرب، خصيصاً على الرأس، ومعاناتها من البخل وسوء المعاملة المستمرة، التي لفتت أنظار الجيران الذين دفعتهم صرخاتها المستنجدة إلى تهديد زوجها بالشكوى إلى الأمن، تهديداً لم يتحول إلى حقيقة.
أهل هاجر زعموا عدم ملاحظتهم لما تمر به ابنتهم، رغم ردهم لها بالإهانة كلما طلبت العون، لذلك حاولت الهرب، من دون أن تتمكن من الوصول إلى بر الأمان، الذي لم تدر له سبيلاً.
حياة مريم لم تكن هانئة منذ البداية، إذ لم يؤخذ رفضها للزواج بعين الاعتبار عند تقديمها لزوجها الذي لم يترك موقفاً أو سبباً للعنف إلا استغله، ليتركها برضوض واضحة على جسدها على الدوام.
أما خديجة فقد تزوجت بعد التعارف، لكن فترة الخطوبة لم تحضرها للزواج المليء بالعنف اللفظي والجسدي، إذ إن زوجها يحاول إثبات رجولته من خلال ضربها وإظهار عصبيته في معظم المواقف "التافهة"، حسبما قالت، وأما بالنسبة لأهلها، بعد "انزعاجهم"، يكتفون بالحديث معه لـ"حل المشكلة".
لكل ضرب "مبرر"!
لم يعتبر أي من الرجال الذين وجه إليهم موقع تلفزيون سوريا أسئلته أن العنف الذي يمارسونه على زوجاتهم يعتبر أمراً خاطئاً أو حتى معيباً، ومنهم من نفاه تماماً.
أحمد، الذي تسبب ضربه لزوجته خسارتها أحد أعضاء جسمها، نفى دعوة ضربه لها بالعنف، بل مجرد "تحبب ولمسات بسيطة"، وما الخسائر التي عانتها سوى حوادث عرضية.
بدوره قال عبد الله إن نقص اهتمام زوجته بأهله وتعاملها "السيئ" مع والدها المريض هو السبب الرئيسي لشجاراتهم، التي تتحول للعنف، بغية "تقويم" سلوكها، وبحسب ما يراه فإنها طريقته تنفع لبضعة أيام قبل أن يعود سبب الشجار مجدداً دافعاً إياه لضربها من جديد أو حتى إرسالها إلى أهلها، إلى أن "يقبل" بإعادتها.
ويرى منسق الصحة النفسية والحماية في منظمة "أوسوم"، الدكتور محمد عجوم، أن للسياق والموروث الاجتماعي والثقافي دوراً رئيسياً في حالات العنف، وزاد من ذلك ضغوط الحياة اليومية من وضع اقتصادي ومعيشي.
ازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءًا بشكل ملحوظ في إدلب، منذ بدء تدهور الليرة التركية منتصف شهر تشرين الثاني الماضي، لتزيد من الضغوط على السكان الذين يعاني 90% منهم من الفقر، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
وصفت الأمم المتحدة في بيان حملة الـ16 يوماً ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي؛ العنف القائم على النوع الاجتماعي، ومن ضمنه العنف الأسري بـ"جائحة الظل"، قياساً على جائحة "كورونا" التي فاقمت من مستويات العنف والضغوط الاقتصادية.
تلعب الوصمة، أي الخشية من التمييز السلبي، دوراً رئيسياً في تقبل العديد من النساء للعنف. وفي كثير من الأحيان، الخوف من العواقب في ظل غياب المعيل أو الأسرة الداعمة يكون السبب. كما يلعب الجهل بالحقوق والقوانين دوراً في حالات العنف تلك، حسبما قال الدكتور عجوم، مشيراً إلى أنه في العديد من الحالات لا تفصح حتى المرأة عن تعرضها للعنف.
قوانين وجهات للحماية لا يلجأ لها
أوضحت المحامية هدى شمة أن القانون المرتكز على الشريعة الإسلامية المعمول به في إدلب يضم بعض المواد المجرمة للعنف ضد المرأة، إلا أن نسبة لجوء المرأة للقضاء "قليلة جداً"، خاصة بعد النزوح والتهجير.
في عام 2021 أبلغت النساء والفتيات عن تعرضهن للعنف بشكل أكبر مما واجهنه خلال السنوات الماضية. أغلبية النساء اللواتي يتعرضن للعنف هن الفتيات المراهقات واللواتي يختبرن الزواج والحمل المبكر والأرامل والمطلقات وذوات الإعاقة والنازحات (خاصة من تسكن في المخيمات) والنساء الكبيرات في العمر.
الصمت يعتبر آلية التعامل الأكثر انتشاراً بين النساء والفتيات، ومنهن من تعمد إلى العزلة الذاتية أو استخدام المخدرات أو الأذية النفسية أو محاولات الانتحار، حسب بيانات الوكالات المعنية في الأمم المتحدة، وبرأي شمة فإن الأسباب التي تقود للصمت، هي العادات والتقاليد والأعراف والجهل بحقوق المرأة، إضافة إلى "ضعف الوازع الديني" لدى من يمارسون العنف، و"عدم تطبيق القوانين بشكل كامل".
مريم، البالغة من العمر 39 عاماً، والتي تتعرض للعنف على الدوام من زوجها، بررت عدم توجهها للقضاء للحماية إلى أن الذين يمتلكون منصباً قيادياً في الفصائل الثورية التي تسيطر على المنطقة منذ عام 2015، لا يمكن الشكوى ضدهم في قضايا العنف.
استخف المحامي حمد الددو، الحامل للدبلوم في القضاء، بنسب العنف ضد المرأة في المنطقة، مشيراً إلى أن تلك النسبة لا تتجاوز 5%، وبرأيه فإن نسب الرجال "المظلومين" من نسائهم، تعادل أو تزيد عن نسبة النساء المعرضات للظلم.
لا يعتبر العنف السبب الأول لدعاوى التفريق والطلاق في المنطقة، حسب تقدير الددو، الذي أضاف أن "القليل" من الحالات تعود للضرب والإهانة، إذ إن ثبوتها صعب إلا بالشهود والتقارير الطبية.
رغم تجاوز عدد المنظمات المعنية بحماية المرأة في إدلب، حسب بيانات عام 2020، عن 40 منظمة، إلا أن المنطقة لا تضم دوراً للحماية يمكن اللجوء إليها هرباً من العنف، حسبما قالت غالية الرحال مؤسسة منظمة "مزايا" لموقع تلفزيون سوريا.
ترى الرحال أن ضعف السلطة القضائية وتشتت القوى في منطقة شمال غربي سوريا جعل العبء الأكبر لتحمل مشكلات الحياة وضغوطها على المرأة، وحرمها من التمكين الاقتصادي والسياسي، وزاد من تعرضها للعنف وزيادة نسبة الجهل لدى النساء، والذي تصاحب مع ارتفاع نسب زواج القاصرات.
تتحول جميع أوجه العنف، من العنف الجسدي والجنسي والعاطفي والمالي، كسلوك يسير بشكل كامل على المرأة ويحد من قدراتها، حسب تقرير لصندوق الأمم المتحدة للسكان، صدر في كانون الأول من العام الماضي، حول العنف في سوريا.
ويقتصر دور المنظمات على تقديم الاستشارات القانونية أو التواسط لحل النزاعات الأسرية وتوعية النساء للتعامل مع ما يتعرضن له وللتعريف بحقوقهن، مع تقديم الدورات التي تتيح لهن الحصول على التمكين الاقتصادي ورفع الوعي الثقافي والنفسي، حسبما قالت الرحال.
لم تتمكن المنظمات المعنية برعاية المرأة من توفير خدمات الحد من العنف سوى إلى 7% من المناطق السورية "بسبب التمويل المحدود، وفق البيان المشترك حول حملة الـ16 يوماً من النشاط ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي، الصادر عن مسؤولين في الوكالات المعنية في الأمم المتحدة.
عدا عن الأذية الجسدية والمضاعفات الصحية التي اختبرتها النساء والفتيات نتيجة العنف، بما في ذلك ما وصل إلى إصابات خطيرة مهددة للحياة، تتعرض الأرامل والمطلقات والمعتقلات السابقات إلى العنف النفسي واللفظي وأذية المشاعر من قبل العائلات والمجتمع.
بالنسبة للنساء المعنفات فإن الحياة التي تحولت إلى دورة مستمرة من العنف والإهانة لا حل لها سوى "الصبر" ومحاولات التفاهم مع الأزواج، من دون أمل لهن بامتلاك الاحترام الذي يستحقنه، لغياب أي تحرك داخلي أو خارجي ينقذهن من هذه الحياة القاسية.