ما يلفت الانتباه مع صدور نتائج الثانوية العامة في سوريا أن ثلثي الحاصلين على العلامة التامة في الفرع العلمي هم من محافظتي اللاذقية وطرطوس، بل إن معظمهم من مدرستين فقط، في هاتين المحافظتين، وهو ما أثار الشكوك حول مصداقية هذه النتائج، ومدى نزاهة عملية التعليم برمتها، التي باتت ترزح تحت وطأة الظروف نفسها التي تعانيها قطاعات البلاد الأخرى، لجهة تدخل أصحاب النفوذ وأجهزة المخابرات في شؤونها.
والواقع أن العملية التعليمية في سوريا هي في انحدار متواتر، ولم تكن بأفضل حالاتها حتى قبل الانتفاضة الشعبية ضد حكم بشار الأسد عام 2011، لناحية التدخلات غير المهنية في مسارها، منذ أن منح الطلاب "المظليين" في ثمانينيات القرن الماضي أفضلية لدخول الكليات العلمية، مرورا بالفلاتر التي تمر بها عمليات الابتعاث الخارجي للطلاب على أساس طائفي أو ضمن علاقات الواسطة والمحسوبيات، حيث تشير معطيات عدة إلى أن معظم المبتعثين هم أيضا من أبناء هاتين المحافظتين.
وبعد عام 2011، تعرض قطاع التعليم كما غيره من القطاعات، لأضرار فادحة نتيجة الحرب، وتدمير عدد كبير من المدارس كليا أو جزئيا، أو تحولها الى مقرات عسكرية أو مراكز لإيواء النازحين، فيما قتل أو اعتقل آلاف المدرسين، وهاجر عشرات الآلاف إلى خارج البلاد، في كل مراحل التعليم.
غير أن التعليم تعرض لأضرار أخرى لا تقل فداحة عما سبق، وذلك على مستويين: الأول ناتج عن تراجع مكانة التعليم بشكل عام، في ظل احتدام الصراع الداخلي وعسكرة المجتمع، حيث القيمة الاجتماعية والعائد المادي، يكون في هذه الظروف من نصيب حملة السلاح، وليس حملة الشهادات. والمستوى الثاني، هو تطييف التعليم، كما العديد من القطاعات الأخرى. ومع تهجير أكثر من نصف سكان البلاد، وغالبيتهم من لون طائفي واحد، انفتح المجال بشكل أوسع، لعمليات إحلال طائفي في كل مجالات الوظائف العامة، وليس قطاعي الجيش والأمن وحسب، وهما مطيفان أصلا قبل عام 2011، بل المؤسسات الاقتصادية، والإعلام، والتعليم أيضا.
ورغم غياب معطيات بحثية دقيقة على هذا الصعيد، إلا أن نظرة سريعة على أسماء العاملين في قطاع الإعلام مثلا، تشرح الكثير من هذا الواقع، وكان لافتا أنه في عملية استبدال المديرين في تلفزيون النظام قبل أيام، أنه تقريبا جميع المقالين والمعينين بدلا منهم، هم من طائفة واحدة.
واذا كان التعليم ليس من القطاعات الجاذبة بالنسبة لمستوى النفوذ والدخل المادي، كما قطاعات الأمن والجيش والإعلام والسلك الدبلوماسي، فإن الكثير من هذه الوظائف يحتاج بموجب القانون و"البرستيج" الاجتماعي إلى شهادات عليا، وهو ما جعله أيضا محط اهتمام، أبناء الضباط والمسؤولين من انتماءات طائفية محددة أو الموالين الآخرين من الوصوليين والانتهازيين، بغض النظر عن معايير الكفاءة، حتى باتت بعثات الدراسة الخارجية سواء كانت علمية أم عسكرية حكرا عليهم.
ومن هنا يمكن فهم كيف أن مدرسة واحدة في اللاذقية كان فيها 12 طالبا حصلوا على العلامة التامة في الثانوية العامة، أي أكثر من محافظات دمشق وحلب وحماة وإدلب ودرعا والرقة ودير الزور والحسكة والسويداء مجتمعة.
والعقلية التي تنتج هذا الواقع موجودة حقيقة حتى قبل عام 2011، لكنها برزت أكثر بعد ذلك، وهي في نمو مضطرد، ومفادها أن من دافع عن البلد في وجه "الإرهاب"، وقدم التضحيات، هو الأحق بخيرات هذا البلد، وينطبق هذا على كل المجالات، من المساعدات الدولية التي تصل إلى البلاد، إلى الخدمات، وصولا إلى الوظائف العامة، ومنها قطاع التعليم. وكثيرا ما تعلو أصوات لدى الحواضن الموالية، ويعبر عنها صراحة في مواقع التواصل الاجتماعي، تطالب بحرمان أبناء مناطق المعارضة من الخدمات أو الوظائف، وضرورة حصرها أو تركيزها في مناطق المدافعين عن البلد (النظام)، وتحديدا أبناء "الشهداء" وجرحى الحرب، وهو ما تجلى بالفعل من خلال العديد من القوانين والامتيازات والمكافآت التي تصدر تباعا، وتخصهم برواتب أو وظائف وتسهيلات كثيرة.
وإزاء هذه الأجواء لجعل التعليم الحكومي، والوظائف العامة بشكل عام، من نصيب الموالين للنظام، يضطر بقية الأهالي إلى البحث عن بدائل عبر التعليم الخاص، والذي تحول خلال السنوات الماضية الى عبئا ثقيلا ومرهقا ماليا، وتحولت معه مهنة التعليم إلى نوع من التجارة، وهذا ما انعكس على واقع التعليم، وجعله خيارا غير مفضل لكثير من الأهالي. ووفق معطيات بعض المنظمات الدولية، فإن هناك نحو 2.5 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عاما، ما يعادل ثلث من هم في سن الدراسة – باتوا اليوم خارج المدرسة.
إن نظام الأسد، يمضي بشكل متزايد إلى تطييف كل قطاعات "الدولة" تحت ضغط حاضنته الشعبية من جهة، وانتقاما من الثائرين عليه من جهة أخرى، ولم يعد يبالي في كثير من الأحيان حتى بالصورة الشكلية التي يكاد يحرص على تقديم نفسه بها، كنظام "وطني" يمثل كل السوريين.