يجادل كثير في جدوى خيار مقاومة الاحتلال، بدعوى أننا أمام عدو متفوق ومدعوم من القوى الكبرى، وأن أي محاولة لمواجهته عسكرياً فاشلة بالضرورة، وسوف ترتد وبالاً على القضية برمتها، خاصة على المدنيين.
هذا كلام منطقي من الناحية الحسابية. لكن كيف تخلصت كل الشعوب التي خضعت للاحتلال من المحتل؟ ألم يكن المحتل دائماً متفوقاً عليها عسكرياً؟ ولو أنها استسلمت لهذا المنطق، لبقيت تحت الاحتلال إلى أبد الآبدين.
وإذا خصصنا الحديث عن مقاومة المحتل الإسرائيلي، فإن السؤال المطروح: هل تركت إسرائيل للشعب الفلسطيني أي خيار آخر غير المقاومة؟ لقد جرب الفلسطينيون، كسائر العرب، طريق المفاوضات منذ مؤتمر مدريد عام 1991، فماذا كانت النتيجة؟ خسروا أكثر من نصف الأرض التي كانوا يتفاوضون على استرجاعها، حيث تضاعف الاستيطان 7 مرات منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وباتت المستوطنات تحتل 40 بالمئة من مساحة الضفة الغربية. وطبعاً، لا تكتفي إسرائيل بمساحة المستوطنات ومحيطها المعد للتوسع مستقبلاً، بل عملت على ضم مساحات إضافية بواسطة "الجدار العازل" وبحجج مختلفة عسكرية واقتصادية.. إلخ.
والحقيقة أن إسرائيل تريد الأرض الفلسطينية خالية من السكان. ومهما كنت مسالماً، فأنت كفلسطيني غير مرغوب بك من جانب إسرائيل، أو كما يقولون هم: "الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت أو البعيد عن هذه الأرض".
وتقوم سياسات كل حكومات إسرائيل، وخاصة الحكومة المتطرفة الحالية، والتي لا يوجد في برنامجها كلمة واحدة عن السلام، على تهجير الفلسطينيين من أرضهم بالقوة، بالقانون والمحاكم، بالإرهاب والتخويف، بخنق حياتهم ومعيشتهم، بإذلالهم على الحواجز، بزجهم في السجون.. إلخ. فماذا يفعلون في ظل محيط عربي متخاذل، وموقف دولي داعم لإسرائيل؟
يرى المؤيدون لخيار مقاومة المحتل ضرورة ترشيد استخدام هذا الخيار، حتى لا يتحول إلى مغامرات طائشة ترتد بالخسائر المتوالية على القضية بدلاً من مراكمة إنجازات صغيرة على الطريق الطويل للتخلص من الاحتلال.
والواقع أن الاحتلال لم يترك لهم سوى خيارين: إما أن يستسلموا ويقبلوا حياة الذل وتُسحب أرضهم من تحت أقدامهم بشكل تدريجي، أو أن يتركوا هذه الأرض ويهاجروا كما تريد منهم إسرائيل. لكن البعض رفض ذلك، وقال: "نتمسك بأرضنا ونقاوم المحتل"، وهؤلاء باتوا اليوم للأسف هم "المجانين" و"المتهورين" أو "عملاء إيران"، وفق ما يصفهم البعض.
لكن في المقابل، يرى المؤيدون لخيار مقاومة المحتل ضرورة ترشيد استخدام هذا الخيار، حتى لا يتحول إلى مغامرات طائشة ترتد بالخسائر المتوالية على القضية بدلاً من مراكمة إنجازات صغيرة على الطريق الطويل للتخلص من الاحتلال، ضمن منهجية يتم التوافق عليها بين القوى الفلسطينية المختلفة، تأخذ في الاعتبار موازين القوى المحلية والإقليمية، واختيار الأنسب في كل مرحلة من أساليب المقاومة تبعاً للظروف القائمة. ومن غير المنطقي مثلاً مناطحة المحتل عسكرياً وهو في أوج قوته، لأنه سيجدها فرصة لتحطيم هذه المقاومة، وسحق كل الإنجازات الصغيرة التي راكمها الشعب الفلسطيني خلال السنوات والعقود الماضية.
لقد تبنى الكفاح التحرري الفلسطيني، الذي انطلق مطلع العام 1965، الكفاح المسلح كوسيلة أساسية لاستعادة الأرض المحتلة، مدعوماً بمناخ إقليمي مواتٍ في مرحلة ذروة المد القومي العربي وتبني القضية الفلسطينية على أوسع نطاق شعبياً ورسمياً. وتواصل هذا الخيار خلال السبعينيات والثمانينيات، والذي وإن كان لم يثمر عن إنجازات كبيرة على أرض الواقع بسبب الاختلال المزمن في موازين القوى، لكنه أبقى شعلة القضية الفلسطينية متقدة على الساحة الدولية، وهو ما أسهم في ولادة مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. ومع ضعف إنتاجية هذا المسار أيضاً، انتبه الفلسطينيون لاحقاً إلى ضرورة اعتماد وسائل كفاحية أخرى إضافة إلى العسكرة والمفاوضات السياسية، فكانت الانتفاضة الشعبية الأولى، ثم الثانية، وما تخللهما من أشكال للتعبير عن مقاومة الاحتلال ورفضه من مظاهرات، وإضرابات، واعتصامات وعصيان مدني، بحضور ناشطي سلام من كل أنحاء العالم.
رغم الإنجاز العسكري الخارق ليوم الطوفان في 7 أكتوبر، فإن الاختلال الشديد في موازين القوى مكّن العدو من استعادة زمام المبادرة، وانتهاز الفرصة لتحطيم مقدرات الشعب الفلسطيني، البشرية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية.
وأمام ضعف مردودية هذه الأشكال الكفاحية على أرض الواقع، بسبب تراجع التبني العربي للقضية الفلسطينية، وترك الفلسطينيين وحيدين في مواجهة الاحتلال المدعوم من القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، جاءت عملية "طوفان الأقصى" كتعبير عن حالة الإحباط الفلسطيني إزاء محتل يزداد تغولاً وشراهة في قضم الأرض الفلسطينية، ودحر أحلام شعبها بالتحرر من نير الاحتلال. ورغم الإنجاز العسكري الخارق ليوم الطوفان في 7 أكتوبر، فإن الاختلال الشديد في موازين القوى مكّن العدو من استعادة زمام المبادرة، وانتهاز الفرصة لتحطيم مقدرات الشعب الفلسطيني، البشرية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية، فيما اعتبره البعض "مغامرة" غير محسوبة من جانب فصائل المقاومة في غزة لأنها زجت الشعب الفلسطيني في معركة غير متكافئة وأكبر من قدراته الذاتية، مع انكشاف خطأ المراهنة على أطراف خارجية مهما كانت شعاراتها ووعودها.
ومن هنا، فإن الدعوة مشروعة لضرورة تبني خيارات في المقاومة تتناسب مع قدرة الشعب الفلسطيني على التحمل والصمود وتضمن بقاءه على أرضه واستمراره في الحياة والتطور لتنمية قدراته، ليتمكن بعد كل إنجاز من تصعيد كفاحه وتوسيع نطاقه، وصولاً إلى الهزيمة النهائية للاحتلال وانتزاع الحرية وحق تقرير المصير.
ولعل هذا ينطبق أيضاً على الثورات الشعبية في وجه الأنظمة الديكتاتورية، حيث تتفوق هذه الأنظمة عسكرياً بفضل تحالفاتها الإقليمية والدولية على الثائرين عليها، وهو ما كان يفرض ربما تبني خيارات أخرى أقل كلفة للإطاحة بهذه الأنظمة، وعدم الانجرار إلى لعبة العسكرة التي تجيدها هذه الأنظمة، وقد سخّرت كل جهدها وموارد البلاد منذ عقود لمواجهة هذه اللحظة.