تحت سقف التسوية المبرمة شمالي حمص، دفع نظام الأسد مؤخراً لتشكيل هيئات مدنية تحركها أياد أمنية، ألبستها اسما يقول إنّ مهمتها ضبط المنطقة ـ المتوترة طائفيا وأمنيا، والخالية من كثير من أبنائها بحكم التهجير والاعتقال ـ على إيقاع "المصالحة الوطنية".
وبالرغم من تلميح أعضاء لجان "المصالحة" المشكّلة حديثا في تلبيسة كبرى بلدات الريف الشمالي، إلى أنّ وجودهم يهدف لرأب صدعٍ داخلي كان قد تأجّج قبل أسابيع، إلّا أنّ الهدف الأساس لهذا التشكيل لم يتّضح بشكل جلي في المنطقة التي أخذ "الشرخ" فيها شكل اشتباك بين أهالٍ من البلدة من جهة، وجيرانهم شرقا المنضوين في ميليشيا إيرانية لا تزال تنتزع أراضيَ وعقارات واسعةً منها، من جهة ثانية.
ويشكّل الموقع الجغرافي لتلبيسة مع موقفها من الثورة السورية حجر أساسٍ لما هي عليه الآن، إذ تتداخل أراضيها ومزارعها من الجهة الشرقية مع أراضي الجوار ذوي الغالبية الشيعية، والذين انضم عدد من أبنائها لميليشيات موالية لإيران، كانت خلال سنوات ما قبل التسوية رأس حربة للنظام في معاركه مع أبناء المدينة التي ناهضته لسنوات.
كما أنّ المدينة تفتقر لكثير من أبنائها المهجّرين والمعتقلين، إذ هُجّر للشمال السوري نحو 2500 شخص إبّان التسوية عام 2018، بالإضافة إلى وجود أكثر من 1000 معتقل لدى النظام، منهم نحو 300 شخص بعد التسوية.
أراضي أهالي تلبيسة أصبحت "غنيمة حرب" لميليشيات إيرانية
إعلان تشكيل الهيئات جاء بعد أحداثٍ عدّة تشابكت في المنطقة خلال الفترة القليلة الماضية، منها ما هو سياسي ومنها ما هو ميداني، يسلّط التقرير الضوء على أبرزها.
ففي الشق الميداني، قالت مصادر خاصّة لموقع تلفزيون سوريا، إنّ أهالٍ من المدينة ما زالوا بعد نحو عامين ونصف من التسوية، يحاولون استرجاع أراضٍ وعقارات تقدر بمساحة 2 كلم عرضا و50 كلم طولاً، احتلها "كغنيمة حرب" منذ سنوات، مقاتلون من أبناء القرى المجاورة ينضوون في ميليشيا "لواء الرضا".
وبحسب المصادر فإنّ بعضا من أهالي قرى شرق تلبيسة (المختارية، الكم، النجمة، تل عمري..) يماطلون بإعادة الأراضي، حيث تذرعوا خلال الفترات الماضية بأنّهم تكلّفوا على زراعتها وسقايتها ماديا، ولن يخرجوا منها قبل قطاف المواسم.
ومرّ أكثر من موسم دون أن يُسمح لأصحاب الأرض باستعادة حقّهم، وذلك في تهديد غير مباشر لهم عادة ما يجري عبر استعراض عناصر الميليشيا مواكبهم وأسلحتهم أمام أبناء المدينة.
و"لواء الرضا" ميليشيا برزت عام 2014، ترفع شعارات طائفية ثأرية، يقودها زعماء ميدانيون تسبق أسماءهم صفة الحاج، ويتّخذون من قرية المختارية مقرّا أساسيا لهم.
يوم دامٍ
المصادر قالت إنّ أهالٍ من تلبيسة ذهبوا قبل نحو شهر إلى أرضهم "المحتلة"، حيث كان يحرثها أشخاص من القرى المجاورة، وعندما طلبوا منهم مغادرة الأرض رفضوا ذلك، ليتطوّر الأمر إلى عراكٍ تبعه اشتباك دامٍ شاركت فيه ميليشيا الرضا ضدّ أصحاب الأرض.
وأصيب في الاشتباك المسلّح أب وابنه من تلبيسة وعدد من عناصر الميليشيا، في حين لعب النظام دور الوسيط دون أن يردّ الأراضي لأصحابها في مصالحة أخذت وفق المصادر شكل "بوس الشوارب".
ورصد مصدر خاص لموقع تلفزيون سوريا حاجزاً جديداً أنشأته قوات النظام يضم بضعة عناصر من الفرقة 11، للفصل بين تلبيسة ومحيطها من جهة الشرق، وقال إنّه لـ "منع وقوع اشتباكات".
"لجنة مصالحات" تتبع للأمن العسكري
بعد أيام من وقوع الاشتباكات، وحصول مصالحة اعتبرها أهال من المنطقة "ضحك على اللحى"، لا سيّما أنّها لم تسفر عن إعادة الأراضي لأصحابها، أو تحدد جدولا زمنيا لعودتها؛ بدأ الحديث عن تشكيل هيئات "مصالحة وطنية".
وروّج النظام لهذا التحرّك الذي ضمّ حتى لحظة كتابة التقرير أكثر من 13 شخصا من وجهاء تلبيسة، بأنّ من مهامه استعادة الأراضي ورأب الصدع بين المدينة وجوارها.
مصدر مطّلع على تأسيس اللجنة وعملها، أكّد لنا أنّ تشكيلها وتسميتها جاء بأمر من شعبة المخابرات العسكرية العامة في دمشق.
ويلعب ضابط رفيع في قوات النظام يدعى جابر عيسى، دورا في دعم اللجنة وفق المصدر، حيث قال لهم إنّ مهمتها بالإضافة إلى ما ذكر أعلاه، فتح ملف معتقلي المدينة.
وبدعم من اللواء طلال الناصر الذي أشرف على تسوية 2018، ترأس عضو برلمان النظام طارق الباشان المتحدّر من عشائر بجوار تلبيسة، لجان المصالحة في عموم محافظة حمص، لتكون لجان المدينة تحت قيادته.
مخابرات النظام تستثمر في الصراع المحلي
واعتبر المصدر الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية، أنّ النظام "يدرك تماما خطورة التوتر بين تلبيسة ومحيطها، لكنّه بدل أن يحكم ضدّ هذا المحيط عبر إعادة الحق لأصحابه، يتركه كعصا يلوّح بها لإرهاب المدينة وتخويفها بشكل دائم".
وأضاف أنّه "وبالتالي فإنّ هذه الخطوة توفّر للنظام سيطرة على المدينة عبر أبنائها المنضوين في اللجان، فيضمن عدم توتر الأوضاع عبر مدّ الأهالي بالآمال والوعود، كما وينهي أو يقلّل من إمكانية اشتباك أبناء المدينة مع الجوار".
ومؤخّراً ظهر تشكيل تحت اسم "سرايا 2011"، طالب بالمعتقلين لدى النظام تحت تهديدات أطلقها عبر مناشير ورقية ومنشورات إلكترونية لوّح فيها بضرب النظام.
اقرأ أيضاً: ريف حمص الشمالي.. زيتون مغمس بالدم وقصف جوي وسرايا اغتيال مجهولة
كما أنّ التشكيل ذاته الذي أيّده البعض وشكّك به آخرون، تبنّى ضرب فرع أمن الدولة في المدينة بالنصف الثاني من الشهر الماضي، وهو ما سلط عليه موقع تلفزيون سوريا الضوء سابقاً.
محاولات النظام لحل التوتر له هدف أبعد من كونه محلياً
رأي آخر، عبّر عنه المقدّم المنشق عن قوات النظام عبد السلام يونس، حيث اعتبر أنّ مهمة اللجنة هي تشكيل أرضية لإعادة أكبر عدد من أبناء ريف حمص الشمالي لا سيّما المهجّرين منهم في لبنان.
وقال يونس وهو من أبناء تلبيسة لموقع تلفزيون سوريا: "أعتقد أن السبب الرئيس هو إعادة اللاجئين من لبنان"، مضيفا أنّ النظام يعمل جاهدا على الترويج لإعادة اللاجئين ليتبعه بطلب إعادة الأموال وهو ما تحظره دول غربية.
وربط الضابط المنشق وجهة نظره بزيارة أجراها عضو في منصة القاهرة عبد السلام نجيب إلى ريف حمص في تشرين أول الماضي.
وحينئذ، طلب نجيب من الأهالي أن يحثّوا أبناءهم الموجودين في لبنان على العودة إلى حمص، مقابل تعهّده بدفع بدل الخدمة العسكرية عن المتخلّفين منهم، وتسوية أوضاعهم الأمنية.
وأشارت المصادر وقتذاك إلى أنّ نجيب أخبر الأهالي أنّه لن يقدّم البدل على شكل أموال للنظام، بل مشاريع إعمار في قراهم وبلداتهم.