في مطلع عام 1906 كان مقدرا للفنانين والمثقفين الذين اتخذوا من حي مونمارتر في باريس مستعمرة لهم أن يتعرفوا بطريقة أو بأخرى على ذلك الشاب الوسيم المثقف القادم من إيطاليا، هذا الفنان الذي كان يتمتع بشخصية جذابة ومتمردة مثل فنه ما هو إلا إميديو موديلياني، وعلى الرغم من أنه كان يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاما فقط إلا أنه ما لبث أن لفت إليه الأنظار وصار معروفا من قبل المجتمع الفني في ذلك الحي الذي شهد ولادة الكثير من الحركات الفنية التي غيرت وجه الفن التشكيلي الحديث.
عاش هذا الملاك الهائم في باريس حياة بوهيمية بالكامل، ولم يكن الفقر والمرض والكحول والمخدرات وليالي الأرق والعلاقات المشبوهة لتمنعه من أن يصنف كواحد من أعظم الفنانين ابتكارا على الإطلاق، حيث أنه ابتكر عالما فنيا خاصا به وحده، عالم موديلياني المتفرد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فأتت أعماله بأسلوب لم يأت به أحد من قبل ولم يستطع أحد أن يتابع ما أبدعه دون أن يبدو سخيفا أو مقلدا، لقد تمرد على الجميع واستطاع أن ينأى بفنه ورفض بشكل حاسم أن ينضوي تحت عباءة أي مدرسة فنية أو تجمع أو تيار، رغم اطلاعه عن كثب على كل ما كان يجري حوله في تلك الفترة الذهبية من مسيرة تطور الفن التشكيلي الحديث.
وككثير من المبدعين لم تتح له الفرصة بأن يقطف ثمار ابداعاته حيث لم يمهله مرضه بالسل الكثير من الوقت فمات في عمر الخامسة والثلاثين فقيرا محطما بعد حياة صاخبة انتهت على نحو تراجيدي صادم حيث انتحرت خطيبته وأم طفلته جان بعد وفاته بيوم واحد وفي بطنها جنين لن يرى النور أبدا.
حياته
ولد إميديو موديلياني عام 1884 في مدينة ليفورنو على الساحل الغربي لإيطاليا متحدرا من أسرة يهودية تعاني من خطر الإفلاس بعد الثراء، وكان لوالدته أثر كبير على إعادة التوازن المالي للعائلة حيث افتتحت مدرسة لتعليم اللغة الإنكليزية والفرنسية التي كانت تجيدهما، وكان لها دور كبير في تثقيف ابنها الأصغر (ديدو) كما كانت تدعوه، نشأ الطفل ضعيفا حيث أصيب بمرض ذات الجنب عام 1895، وفي عام 1898 أصيب بحمى التيفوئيد الخطيرة، ووفقا لمذكرات والدته فقد بدأ ديدو يرسم فقط بعد مرضه بالحمى حيث كان يهذي ويصف صورا لم يرها من قبل وظهر لديه شغفا و إصرارا على تعلم الرسم غير مبال بإكمال تعليمه المدرسي الذي كان يتلقاه في المنزل، فدخل استديو الفنان المحلي (جي ميتشيلي) وكتبت والدته في يومياتها: "تخلى ديدو عن كل شؤونه ولا يفعل شيء سوى الرسم.. إنه يرسم طوال اليوم بشكل مذهل، مدرسه مسرور به جدا، يقول إن ديدو يرسم بشكل جيد جدا بالنسبة لطالب درس الرسم لمدة ثلاثة أشهر فقط".
في عام 1900 مرض موديلياني مرة أخرى بمرض ذات الجنب وتم العثور على بؤر لمرض السل في رئته اليسرى، هذا المرض الذي سينهي حياة الفنان في سن مبكرة، اصطحبته أمه إلى جزيرة كابري ليتعافى هناك، وفي طريق العودة تسنى له زيارة متاحف روما وفلورنسا والبندقية وشاهد عن كثب أعظم الأعمال الفنية المعروضة فيها فكان لهذه الرحلة الأثر العميق في تكوين شخصية هذا الفنان المراهق، فما كان منه إلا أن قرر المغادرة إلى فلورنسا عام 1902 ليتابع دراسته الفنية، وفي عام 1903 انتقل إلى البندقية ليواصل دراسته في الأكاديمية المحلية، كانت البندقية مدينة مزدهرة ثقافيا وفنيا ولكن موديلياني مثل كل الفنانين الشباب من جيله كان متطلعا ومنجذبا إلى باريس فانتقل إليها متحمسا عام 1906 يحدوه الأمل بأن يكون له دور بارز فيما يجري هناك بعد أن تعرف على أسلوب الانطباعيين في البندقية.
وصل إلى باريس واستقر في حي مونمارتر الشهير وبدأ باكتساب الأصدقاء بسرعة حيث أنه كان يجيد الفرنسية بطلاقة مما سهل عليه الحياة في تلك المدينة الصاخبة.
في عام 1907 تعرف على الطبيب الشاب العاشق للفن (بول ألكسندر) الذي حاول مساعدته في تسويق أعماله، ثم عرفه على النحات البارز (قسطنطين برانكوسي) عام 1909 فأصبح موديلياني مهتما بالنحت وترك الرسم تماما وعرف عن نفسه على أنه نحات إلا أن الجهد البدني والغبار الناتج عن النحت المباشر أثر على صحته، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة المواد الأولية من حجارة ورخام فلم يتمكن من متابعة أعماله بالنحت بسبب وضعه المالي المذري، فعاد إلى الرسم حيث كان يقايض رسوماته للعاريات بالقليل من الطعام والكثير من الشراب، في تلك الفترة كان قد انتقل إلى حي مونبارناس.
حقق موديلياني بعض النجاح في عام 1914 بعد أن تعرف على (بول غييوم) ومن ثم (ليبورد زبوروفسكي) عام 1916 وهما من تجار القطع الفنية أبديا اهتمامهما بأعمال موديلياني، وحاول بالفعل زبوروفسكي أن ينظم معرضا فرديا لموديلياني عام 1917 الذي سيكون معرضه الفردي الأول والأخير والذي سيفشل فشلا ذريعا بعد أن أغلقته الشرطة قبل الافتتاح الرسمي بقليل بحجة أن لوحات الفتيات العاريات كانت خادشة للحياء العام.
في تلك الفترة كان قد تعرف على الفنانة الشابة (جين هيبوتيرن) التي وقعت في غرامه وهي التي ستكون حبه الأخير، حيث أنها لم تحتمل صدمة موته وأنهت حياتها بعد وفاته بيوم وهي حامل في شهرها الثامن تاركة ورائها ابنتهما جان التي أنجباها عام 1918.
المدرسة الموديليانية
من النادر حقا أن يحقق فنان تشكيلي تفردا خاصا كما فعل موديلياني وخاصة أعماله التي أنتجها في السنوات الأخيرة من حياته، فإن أي مهتم ومتابع للفن التشكيلي يستطيع تمييز لوحات وأعمال هذا الفنان من بين آلاف القطع الفنية على نحو يدعو للدهشة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من مئة عام من تراكم الإنتاج الفني بعد وفاته، وإن دل ذلك على شيئ فإنما يدل على أن هذا الفنان كان يعي ما يريده وكان يسعى بكل ما أوتي على تطوير أسلوبه الخاص دون أن يتأثر بأمواج التغيير التي كانت تعصف بالحركة الفنية التشكيلية في زمانه مع معاصرته لعمالقة الفن التشكيلي الحديث، فإن كانت حياته الشخصية تتسم بالعبث والمجون واللامبالاة فإن حياته الفنية كانت على عكس ذلك تماما، فهي تتسم بالجدية والمثابرة والثقة المطلقة بقدراته وموهبته رغم لعنة الفقر والمرض التي رافقته طيلة حياته، وحتى نفهم تكون الشخصية الفنية لمودلياني علينا أن نلقي نظرة على ماكان يجري في تلك البيئة الفنية الخصبة التي عايشها.
في عام 1907 نجد بيكاسو يرسم لوحته الشهيرة (آنسات أفينيون) ونجد موديلياني يرسم لوحات تعبيرية لأشخاص عاديين متأثرا بأسلوب (شتينلين) و (هينري تولوز لوتريك) مع الأخذ بعين الإعتبار أن موديلياني كان قد وصل لتوه إلى باريس بينما بيكاسو كان قد لبث فيها عشر سنين وكان قد استوعب كل شيء تماما ، ولننظر الآن بعد عشر سنين أين أصبح موديلياني بالنسبة لمعاصريه؟ .. في عام 1917 كان مواطنه كريكو قد خلّف مرحلته الميتافيزيقية وراءه، وكان موندريان قد أنجز تجريداته الهندسية البحتة، وصنع مالفيتش أجمل لوحاته التفوقية، وأبدع كاندنسكي أولى وأهم لوحاته التجريدية، وكان بيكاسو وبراك قد مضيا بعيدا في التكعيبية ..الخ
أما موديلياني فقد كان يرسم في هدوء ورقة دون أي تكلف بأسلوب تعبيري مرهف وأخّاذ، يرسم وجوه وأجساد يضع فيها كل مافي قلبه من حنان وعذوبة.
لم يكن هذا الموقف ناتجا عن ضعف أو لامبالاة حيال ما يجري حوله من تغيرات جذرية، وإنما كان بسبب استقلاليته وتفرده ووعيه الكامل بما يفعله.
رفض موديلياني الانضمام للوحشيين إبان وصوله إلى باريس على الرغم من ذياع صيتهم آنذاك وفضل أن يبقى على انطباعيته المرتبكة ذات الألوان القليلة وهو ذات الطريق الذي سلكه بيكاسو قبل عشر سنين عند قدومه إلى باريس، وكان موديلياني على صلة وثيقة مع مجموعة بيكاسو وماكس جاكوب وبراك وسالمون وغيرهم، وقد حضر ولادة التكعيبية وشاهد بيكاسو يكشف عن لوحة (آنسات أفينيون) تلك اللوحة الصادمة للوسط الفني في وقتها، ومع ذلك لم يذهب إلى التكعيب. وكان من المتوقع أن يرتبط بمواطنيه من المستقبليين ك (بوتشيوني) إلا أنه لم يفعل، وفي عام 1909 اقترح عليه مواطنه (سيفيريني) الانضمام إلى الحركة الصفائية فرفض ذلك أيضا، ولم يشأ أن يذهب إلى التجريد، لقد كانت ميوله محددة ومستقلة عن ميول أقرانه وأصدقائه، ونظرا لنمط الحياة البوهيمية الذي كان يعيشه فإنهم لم يكونوا يأخذوه على محمل الجد، حتى أن بيكاسو كان يشك بأن موديلياني يمثل دور الفنان المنبوذ ويفتعله افتعالا إذ يقول: "عجيب أمر موديلياني فلم يسبق لأحد أن رآه مخمورا في شارع سان دونيز ولكنه دائما على قارعة شارع مونبارناس أو راسيالي".
على كل حال فإن موديلياني لم يكن منيعا تماما عن أي مؤثرات، فلقد كان المعرض الجامع لكل أعمال سيزان في معرض الخريف عام 1907 والمعرض الكبير الذي أقيم لهذا الفنان عام 1909 هو الحدث الذي ساعد بالتأكيد على تشكيل تقنية موديلياني وأبعده عن الانطباعية المونمارتية إذا جاز التعبير والتي لم يكن لها أي طابع مميز في بداياته، فلم يخفي تأثره وإعجابه أيما إعجاب بلوحة (الشاب ذو السترة الحمراء) لسيزان وفي نفس الفترة رسم لوحة (عازف الفيولونسيل) تلك اللوحة التي تقطر (سيزانية) إلا أنها تحدد الطابع المميز لموديلياني.
ولا يخفى على أي مطلع على لمسيرة هذا الفنان تأثره بالفن الفرعوني والأقنعة الإفريقية التي استجلبت من ساحل العاج، ويبدو ذلك جليا في منحوتاته خاصة، ولوحاته المتأخرة الأكثر إدهاشا والتي شكلت علامة فارقة ميزت أعماله عن جميع معاصريه، حيث نلاحظ استطالة الوجوه والأنوف والأعناق وانسيابية الخطوط مع تكثيف اللون بضربات ريشة هادئة ومتزنة ومدروسة تنم عن ذهن متقد وواسع الاطلاع وغزير الثقافة، يرسم لوحاته بعين الناقد المتمرس، ومع الأسف فإننا لن نعلم أبدا كيف كان سيتطور أسلوب موديلياني الفريد لو أنه عاش عمرا مديدا مثل بيكاسو.
في الحقيقة إن ما بقي لنا من أعمال هذا الفنان أقل بكثير مما أنتجه حيث كان سخيا في منح أعماله مقابل القليل من المال وغاليا ما كانت تندثر بسبب الإهمال ، كما أنه كان قد أتلف جميع أعماله القديمة في مرسمه في مونمارتر عندما تحول إلى الحياة البوهيمية واصفا إياها بالأعمال البرجوازية القذرة حيث كان مازال متأثرا بفنانين عصر النهضة والرسم الأكاديمي عند قدومه باريس، لذلك فإننا لا نستطيع القول أنه قد تمت الإحاطة بتجربته الفنية بشكل كامل وخاصة أنه على عكس معاصريه فإنه لم يكن يحب التحدث عن فنه وأعماله حيث يذكر ذلك اندريه سالمون في كتابه عن مودلياني: "كان متواضعا كما يشتهي ولم يكن يتحدث مع أحد حول رسومه وبذلك لم يتح لأحد ليعرف أو يكتب أو يقول شيئا ما عن لوحاته".
ولعل وفاته المأساوية المذيلة بانتحار حبيبته قد عززت شهرته للأسف فكثر الحديث عنه وعن حياته الماجنة فانجذب إلى أعماله المقتنين وتنبه النقاد لفنه الذي كانوا يتجاهلونه ولا يعيروه اهتماما في حياته، فعاش منبوذا يعاني الفقر والمرض، وبين ليلة وضحاها أصبح حديث الناس في كل مكان كما حدث سابقا مع الفنان العظيم فينسنت فان كوخ الذي لربما لولا حياته المأساوية وحادثة قطع أذنه ثم انتحاره لما تنبه له ولفنه أحد ولربما كانت اندثرت أعماله الفنية بكل ما تحمله من قيمة فنية عظيمة ونسيت معه للأبد.
نختم بما يقول جان كوكتو عن موديلياني: "لم نكن نعلم أن موديلياني هو نهاية الأناقة العميقة في مونبارناس، فلقد كنا نتصور أن تلك الأيام الطويلة التي يقضيها في التصوير عند كيسلينغ، وتلك الرسوم على الأرصفة، وتلك الروائع المعروضة بخمسة فرنكات، والخلافات والغراميات، كنا نتصور أن كل ذلك سوف يدوم للأبد".