حالة الحنين التي يعيشها السوريون اليوم في ظل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الخانقة، تتجلى فنياً في انغماس الجمهور المتواصل بمتابعة المسلسلات الدرامية القديمة؛ إذ إن الحنين للملامح المدنية التي نفتقدها اليوم في دمشق والشوق للأجواء العائلية التي حرم منها السوريون بعد تشظيهم ما بين من بقي في الداخل وما بين اللاجئين المبعثرين حول العالم، جعلت السوريين يبحثون في أرشيف الدراما السورية عن أعمال تعوض هذا النقص.
فالكثير من السوريين يشاهدون حياتهم اليوم وكأنها مسلسل، يفضلون منه الفصول الأولى التي كانت أكثر دفئاً وأقل إيلاماً. لذلك يقومون بإعادة المسلسلات القديمة ذاتها ويتابعونها في ساعات الفراغ أو أثناء قيامهم بالأفعال المنزلية الروتينية، كالأكل والتنظيف، لأنها باتت جزءاً لا يتجزأ من نمط حياتهم.
عدد كبير من الجمهور السوري يفضل مسلسل "الفصول الأربعة"، الذي أنتج منه جزآن قبل نحو عشرين عاماً، بسبب الأجواء العائلية الحميمية التي يستحضرها المسلسل، ولأنه بسياق متصل– منفصل، يسمح للمشاهد بأن يبني علاقة حميمية ومستمرة مع الشخصيات دون أن يلزمه بمتابعة العمل كاملاً في كل مرة. كما أنه لا يمكن أن نغفل دور الموسيقا التصويرية الرقيقة التي ترافق المشاهد الدرامية، فهي تبدو ملائمة للحالة الشعورية التي يعيشها الجمهور السوري اليوم.
العلاقة الحميمية التي تربط السوريين بمسلسل "الفصول الأربعة" وشخصياته، والتي تعمقت مع تقادم الزمن، دفعت البعض لاستثمارها فنياً، فأنتجت منصة "كلوز شوت" فيلم وثائقي بعنوان "نوستالجيا الفصول الأربعة" تم تصويره في منزل العائلة الكبير في حي المهاجرين، وشارك بالعمل الممثل ميلاد يوسف ليتحدث عن علاقته بالعمل الذي كان له دور كبير بنجوميته بالإضافة لأشخاص من المتابعين الذين تربطهم علاقة عاطفية بالمسلسل. كذلك انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي قبل سنتين سؤال عن مصير شخصيات "الفصول الأربعة" ما بعد سنوات الثورة والحرب. حينذاك شارك عدد كبير من السوريين بلعبة التوقع ونشرت بعض الصفحات السورية على "فيس بوك" المتخصصة بأخبار الدراما سيناريوهات متخيلة عن مصائر الشخصيات وانقسامها، وربطوا بين مواقف الممثلين السياسية ومصائر شخصياتهم في تلك الحكاية.
المفارقة الكبرى في الحكاية تجلت بكون الشخصيات المثالية الأربعة في المسلسل، "عادل" و"نادية" و"كريم" و"نبيلة"، جميعهم غابوا عن فضاء المدينة، فالموت غيب خالد تاجا ونبيلة النابلسي، والمواقف الثورية تكفلت بإقصاء جمال سليمان ويارا صبري. ذلك أدى لصياغة حكاية تتطابق فيها مصائر الشخصيات مع واقع ممثليها؛ فغيبت الحكاية الشخصيات الميتة وأقصت الممثلين المعارضين؛ فكانت النتيجة إعادة صياغة عائلة "الفصول الأربعة" بغياب شخصياتها المثالية؛ ليقودنا ذلك إلى المفارقة الثانية، التي حولت الحكاية إلى صراع طبقي بين عائلتي "مالك الجوربار" و"نجيب فهمي"، لتكون معظم التوقعات قائمة على ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وانفجار مشاعر الحقد الطبقي. ربما بدت الحكايات المرتجلة جذابة لكونها تشبه الواقع، الذي بدا متحكماً بأفكار عشاق المسلسل بدلاً من النوستالجيا المرجوة بمتابعته. وقد بدت هذه الحكايات جذابة بالنسبة لبعض الممثلين أيضاً، ليشاركوا بدورهم في طرح توقعاتهم حول مصائر الشخصيات، كما فعل جمال سليمان في مقابلة أجراها نورس يكن في بودكاست "خلينا نكسبك" العام الماضي، والتي توقع فيها بقاء "نجيب" و"برهوم" في البلد المتأزم، ورحيل "مالك الجوربار" نحو أسواق بيروت أو دبي.
هذه التساؤلات بدأت فعلياً بالتزامن مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى من رحيل مخرج العمل حاتم علي، الذي مات العام الفائت، والذي حمل برحيله جرعة جديدة زادت من نبرة الحنين والألم
هذه التساؤلات بدأت فعلياً بالتزامن مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى من رحيل مخرج العمل حاتم علي، الذي مات العام الفائت، والذي حمل برحيله جرعة جديدة زادت من نبرة الحنين والألم. الغريب في الأمر أن حدث الموت رافقته منشورات تباكى فيها السوريون على المسلسل، حيث قام البعض حينذاك بالتعبير عن أسفهم لأن إنتاج جزء ثالث من المسلسل بات أمراً مستحيلاً!
اليوم تبدو الصحافة الفنية السورية متحمسة للفكرة أكثر من أي وقتٍ مضى، تدور كاميراتها لالتقاط تصريحات حول الجزء الثالث من المسلسل، الذي لم يعلن أحد عنه. فقبل خمسة أيام، أجرت "كيو ميديا" مقابلة مع ريم حنا، التي شاركت بكتابة المسلسل مع دلع الرحبي؛ تمحورت المقابلة حول إمكانية إنتاج جزء ثالث من المسلسل. ببداية المقابلة أكدت ريم حنا أن فكرة استكمال المسلسل ليست واردة اليوم، لكن ذلك لم يمنع من استكمال الحديث حول التكهنات المرتبطة بمصائر الشخصيات الافتراضية إذا ما كانت حياتها مستمرة حتى عام 2021.
كل المعطيات والتصريحات تشير إلى أن إنتاج جزء ثالث من المسلسل هو أمر لن يتحقق؛ لكن الأمر الذي لا يمكن تجاهله هو رغبة عدد كبير من السوريين بمشاهدة الجزء الثالث من العمل؛ الجزء الذي بات جاهزاً بمخيلتهم لكنهم بحاجة لمتابعته؛ فالسوريون تعودوا على مشاهدة حياتهم وكأنها مسلسل، ويبدو واضحاً أنهم يرغبون برسم نهاية لحكاية السنوات الضائعة والقاسية التي يعيشونها، ولعل ذلك يتم عن طريق شخصيات "الفصول الأربعة" التي قد تنهار بفعل درامي يؤدي إلى التطهير.