لا يمتلك المنساقون وراء الأجندات الدولية التي تطوّع تفسيرات القرارات الأممية المتعلقة بالحل السياسي في سوريا بما يتناسب مع تقاطع مصالحها، ولا يمكن أن يمتلكوا زمام كنس نظام استبدادي يرأسه سفّاح يرتكز في استمراره في حكمه على تغاضي المجتمع الدولي عن ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كذلك المتريّثون المنتظرون تبلور ونضج المشهد الدولي تجاه القضية السورية، وعلى الرغم من جذريّة مواقفهم الرافضة الالتحاق بقطار الحلّ الروسي، أولئك أيضاً لا أعتقد أنهم يمتلكون أدوات كنس نظام الأسد ماداموا ساكنين مستنكفين. وبذلك تبقى الآمال منعقدة على شريحة الشباب الثائر الذي لم يستسلم لترف اليأس والإحباط ولا لوَهمِ الاستكانة الدارجة لإعلان هزيمة الثورة، بل نراه اليوم، كما في آذار عام 2011، يسبق المعارضة الرسمية والتقليدية ليقول كلمته الجوهرية في أن الثورة السورية ممكنة وأنها مازالت حيّة.
كان خطاب القسم لبشار الأسد في شهر تموز عام 2000 عند تولّيه منصب الرئاسة في سوريا بعد وفاة والده الدكتاتور حافظ الأسد، محاولة ضرورية لكسب شرعية معدومة بعد توريثه السلطة في دولة ذات نظام جمهوري، وكانت أدواتها التجميلية جليّة من خلال حديثه عن التطوير والتحديث والإصلاح والحوار. لكنها بقيت محاولة بائسة وفاشلة إذ سرعان ما انقلب الأسد الابن على وعوده بعهد جديد، فلم يحتمل، هو وأجهزة أمنه القمعية، ظاهرة ربيع دمشق ولا منتدياته ولا فعاليات لجان إحياء المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك "منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي" الذي لم ينجُ من التضييق والحصار، لكنه أبقى عليه بوصفه برهانه الوحيد الأوحد على وجود ساحة للحرية والديمقراطية في سوريا أمام وسائل الإعلام الغربية التي كانت تسأله عن مآلات خطابه الأول.
سرعان ما انقلب الأسد الابن على وعوده بعهد جديد، فلم يحتمل، هو وأجهزة أمنه القمعية، ظاهرة ربيع دمشق ولا منتدياته ولا فعاليات لجان إحياء المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان
ثم كان مصير نافذة الحوار الديمقراطي العلني الأخيرة في سوريا الإغلاق القسري عام 2005، بعد أن استقطبت شريحة هامة من شباب الحراك الطلابي الذين تميّزوا بنشاطهم المطلبي في ظاهره والسياسي في جوهره، في جامعات حلب ودمشق عام 2004، وكان المنتدى يعمل معهم على التأسيس لمنتدى جمال الأتاسي للشباب، فتجاوز بذلك خطاً أحمر وضعه نظام الأسد خوفاً من التغيير الجذري وعماده الفعلي الحقيقي شريحة الشباب وحراك الجامعات، وكانت ذريعة الإغلاق حينها قراءة ورقة لجماعة الإخوان المسلمين في إحدى الندوات الحوارية لمنتدى جمال الأتاسي. لم يمرّ تجاوز الخط الأحمر هذا دون ممانعة شديدة من تيار المعارضة التقليدية داخل المنتدى حيث انسجم بعض رموزها مع واقع مقايضة استمرار المنتدى مقابل تقيّده بالإطار المسموح به من قبل النظام، لدرجة أنهم حمّلوا التيار الشبابي في المنتدى مسؤولية منعه وإغلاقه!
استثمرت المعارضة السورية الموقف الدولي الذي بدا حاسماً من نظام الأسد الضالع في مقتل رفيق الحريري في شباط 2005، وفي سلسلة اغتيالات رموز ثورة الأرز في لبنان، فصعّدت خطابها في مواجهة النظام وتحدّثت من خلال "إعلان دمشق" عن القطيعة مع الدولة الأمنية والعمل من أجل إنهاء مرحلة الاستبداد واستبدال النظام الشمولي التسلّطي القائم بنظام ديمقراطي، على اعتبار أن "مهمّة تغيير إنقاذية"، سلميّة ومتدرّجة ومبنيّة على التوافق، قد بدأت في سوريا (البيان التأسيسي لإعلان دمشق الصادر في تشرين الأول 2005). لكن تلك المواقف الجذرية لم تسلم من عدوى انعطاف الموقف الدولي تجاه الأسد ونظامه عام 2008، وفكّ طوق العزلة الصارمة عنه، فانزاحت من إعلان السياسة التغييرية الجوهرية الذي يبدو أنه كان وليد تغيّر موازين القوى الدولية لغير مصلحة النظام، إلى فتح صفحة جديدة بمواقف أكثر براغماتية تنفي اتّباع نهج تعزيز عزلة النظام ومحاصرته وتدعو إلى الدفع نحو انفتاحه على الشعب السوري، وتشكّك في الآن ذاته بجديّة النظام في رجوعه عن سياساته الخارجية والداخلية (بيان إعلان دمشق الصادر في 5/9/2005).
مازلتُ أذكر تماماً نقاشاتنا الداخلية المحتدمة في تلك المرحلة، جزءٌ منها كان يمتدّ ليصبح المادة الأساسية في التواصل بيننا وبين بعض معتقلي حرية الرأي والتعبير في سجن عدرا (فقد كان باستطاعتهم الاتصال بنا مرة أسبوعياً، ومنهم على سبيل الذكر الصديق المحامي أنور البني، وأصدقاء آخرون هم اليوم في عداد المختفين قسرياً بعد أن اعتقلهم وغيّبهم نظام الأسد). كانت السمة الأبرز لهذه النقاشات الاعتراض على تلك الانعطافة التي قام بها إعلان دمشق، وحاجتنا الماسّة لمواقف قوى أكثر جذريّة قادرة على "كنس نظام الأسد" عندما يصبح متهالكاً، حيث السقوط وحده ليس كافياً.
كانت السمة الأبرز لهذه النقاشات الاعتراض على تلك الانعطافة التي قام بها إعلان دمشق، وحاجتنا الماسّة لمواقف قوى أكثر جذريّة قادرة على "كنس نظام الأسد" عندما يصبح متهالكاً، حيث السقوط وحده ليس كافياً
ثم كانت شريحة الشباب السوري السبّاقة، عندما بادرت إلى تنظيم الاعتصامات التضامنية مع ثورات الربيع العربي قبل أن تبدأ هي أيضاً بإشعال فتيل الثورة السورية في آذار 2011، تبعتها المواقف التأييدية لقوى المعارضة والتحقت بها دون أن تتمكّن من أن تشكّل رافعة حقيقية أو إطاراً تنظيمياً أو ربما توجيهياً استشارياً للحراك الثوري. وفي شهر تشرين الأول من العام 2011، ومع تأسيس المجلس الوطني السوري، كنا نبحث في مؤسسات الحراك الثوري: الهيئة العامة للثورة السورية، لجان التنسيق المحلية، المجلس الأعلى لقيادة الثورة، جدوى المشاركة بعد دعوة المجلس الوطني لنكون من مكوّناته. كنّا نطالبهم بالثلث الضامن لشباب الحراك الثوري، ليس محاصصةً بل حرصاً على الحيلولة دون انعطافات مماثلة لانعطافات سابقة للمعارضة السورية، حيث أصبح المشهد مختلفاً، فهي ثورة غير قابلة للبراغماتية والإفراط بها بعد التضحيات التي قدّمها الشعب السوري على مذبح الحرية. ولا يمكن أن أنسى ما قاله أحد المعارضين المؤسسين للمجلس الوطني يومها: "تركنا لكم الشارع.. فاتركوا لنا السياسة".
سبع سنوات مضت، والواقع اليوم يؤكّد ضرورة مراجعة ومعالجة هذه الخطيئة: إبعاد شباب الحراك الثوري الفعلي والحقيقي أو ابتعادهم عن الإمساك بزمام تمثيل الثورة وإدارتها، خصوصاً أن تلك الشريحة كانت الأقلّ تمثيلاً في المؤسسات الرسمية لقوى الثورة والمعارضة ووفودها ولجانها، وكان ثقلها مغيّباً عن التأثير في المنعطفات الخطيرة التي مرّت بها القضية السورية. فعلينا الاعتراف أن المرأة في السياسة وجدت نسبياً في قرارات دولية وقواعد إجرائية وضعتها بروتوكولات أممية، من يدافع عن وجودها، ومن يفسح لها المجال، رغم كل العراقيل، لتكون حاضرة في الأطر الرسمية للعمل السياسي وتمثيل الثورة، الأمر الذي لا ينفي ضراوة المعارك التي تخوضها في مواجهة البعض الذي مازال يعتبرها مجرد وجه نسائي يحتاجه اكتمال المشهد. لكن شريحة الشباب (شباب وشابات)، عماد الثورة وصنّاعها ووقودها، تلك الشريحة التي أثبتتْ أنها باتت تمتلك كفاءات حرقت مراحل هامة ومكثّفة في مراكمة الوعي والنضج السياسي خلال سنوات الثورة، بقيت على الغالب تمارس نشاطها في أُطر العمل المدني أو العسكري خارج ساحة العمل السياسي.
سبع سنوات مضت، والواقع اليوم يؤكّد ضرورة مراجعة ومعالجة هذه الخطيئة: إبعاد شباب الحراك الثوري الفعلي والحقيقي أو ابتعادهم عن الإمساك بزمام تمثيل الثورة وإدارتها
لن يكون من مصلحة من يتصدّر المشهد السوري للثورة إفساح المجال أمام الشباب، حيث أصبحت موازين القوى داخل المؤسسات الرسمية للمعارضة محسومة ومحسوبة بدقة متناهية لصالح صنّاع القرار، أو بالأحرى صنّاع المشهد الذي يُراد له أن يبدو سورياً كعنوان لإخراج تنفيذ التوجهات والقرارات الدولية. فلا بدّ لفريق شبابي يتشكّل اليوم ويشقّ طريقه بنفسه في ساحة العمل السياسي الثوري، أن يستلم زمام المسؤولية ويحثّ الخطى بمنهجية وأدوات وآليات عمل جديدة قابلة للتطبيق والقياس، يتمسّك بروحية الثورة وجوهرها، ويأخذ المبادرة في درب شاقّ ولكنه حتميّ: درب كنس نظام الأسد وانتزاع الحرية والاستقلال.