العديد من المقالات الإخبارية التي تُغلق أبواب عام ٢٠١٨ على مأساة شعب أراد الحرية والكرامة والحياة، تتحدّث عن فشل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان ديمستورا في مهمته المتعلقة بالدفع بمسار العملية السياسية قُدماً بهدف الوصول إلى حل سياسي لقضية الشعب السوري.
وتُجمع الآراء فيها حول الحصاد الهزيل والمحدود لعمله الدبلوماسي بهذا الاتجاه، ولكنها تتجاهل في انطباعاتها العامة وتحليلاتها الغالبة، النجاح الباهر والحصاد المثمر الذي حقّقه في اتجاهات معاكسة تجلّت في عدم احترام المبادئ النظرية لميثاق الأمم المتحدة حول حفظ السلام والحماية الإنسانية، كما في خرق وتجاوز القرارات الأممية التي كانت تضمن الحدّ الأدنى من حقوق شعب قدّم كل التضحيات لضمان مستقبل حرّ لا يحكمه فيه سفاحون ومجرمو حرب.
وفي إصراره، بعد مرور أكثر من أربع سنوات على تعيينه في منصبه الذي من المفترض أن يغادره نهاية هذا العام، على اعتبار تشكيل اللجنة الدستورية ومهمتها وضع دستور جديد دائم للبلاد تجري على أساسه الانتخابات وتنسف مرحلة الانتقال السياسي، بمثابة التحقيق الأمثل لاختراقٍ في الملف السوري المعقد، الدليل الكافي الوافي على خدمته لمصالح نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين.
إذاً لقد نفّذ ديمستورا ببراعة الأجندة المطلوبة منه، وبذلك نجح في مهمّته في حرف المسار السياسي للقضية السورية، وما يتمّ ترويجه حول فشله هو محض تضليل يشابه عمليات التضليل التي مارسها هو نفسه على قوى الثورة والمعارضة طيلة سنوات عمله معها.
لقد نفّذ ديمستورا ببراعة الأجندة المطلوبة منه، وبذلك نجح في مهمّته في حرف المسار السياسي للقضية السورية، وما يتمّ ترويجه حول فشله هو محض تضليل
وبالعودة إلى بدايات حكاية ديمستورا مع الثورة السورية والحل السياسي واستراتيجيته المُحكمة التي اتّبعها بشكل منظّم وبدأبٍ مشهود، تلك الاستراتيجية التي قاربت رؤية حلفاء نظام الأسد، وبالأخص الرؤية الروسية، لإجهاض الثورة واستمرار النظام الأسدي في التحكّم بالشعب السوري والالتفاف على القرارات الأممية التي كسبتْها الثورة بفعل تضحيات أبنائها، في ظل غياب أية استراتيجية أو رؤية واضحة لمن أطلقوا على أنفسهم لقب: أصدقاء الشعب السوري، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة التي أطلقت يد روسيا في المنطقة وسلّمتها مفاتيح الحل.
لا بدّ أن نستذكر مقترح ديمستورا المشبوه حول "تجميد القتال في حلب" ووقف المعارك بالأسلحة الثقيلة في العام 2014 بعد أيام من انتصارات مهمة للثوار على قوات النظام والمليشيات المساندة له، وذلك بحجّة ضرورة إعطاء إشارة لخفض مستوى العنف وزيادة نقل المساعدات الإنسانية.
رفضتْ حينها الفصائل العسكرية والفعاليات الثورية مبادرة ديمستورا باعتبارها تعتمد على حلّ جزئي وربما تطبيعي، تتناقض مع المقررات الدولية التي تتضمن تشكيل هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة تؤسس لرحيل نظام الأسد، بل وتعمل على نسفها لتصبّ في خانة الإجراءات العلاجية لإطالة عمر النظام، واعتبروها مبادرة روسية بامتياز حيث ازداد الدعم العسكري الروسي الإيراني لقوات الأسد التي شنّت هجوماً واسعاً في حلب وحاصرت المدينة لإجبار المعارضة على الرضوخ للمبادرة.
ومن مبادرة "تجميد القتال في حلب" إلى خطة ديمستورا ومقترحه تشكيل "مجموعات العمل الأربع" عام 2015، الذي اعتبره حينها البيان المشترك الصادر من الهيئة السياسية للائتلاف الوطني بالمشاركة مع كبرى الفصائل العسكرية الثورية، تجاوزاً لمعظم قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالشأن السوري لا سيما القرارات ٢١١٨ و٢١٦٥ و٢١٣٩، بما تضمّنه المقترح من غياب للمبادئ الأساسية الواضحة لصيغة الحل السياسي في سوريا ومن غموض مقصود يصفه ديمستورا بالبنّاء ليخفي من خلفه دبلوماسيته الهدّامة.
أتى ذلك المقترح منسجماً مع بداية تغيير المواقف السياسية الدولية من قضية مصير الأسد وطبيعة المرحلة الانتقالية، وأتى مترافقاً مع وثائق سريّة قدّمها المبعوث إلى مجلس الأمن تحت مُسمى "التوصية الأولى" وهي "مسودة الإطار التنفيذي لبيان جنيف"، حيث تنص الفقرة (51) من الملحق الرابع للتوصية بشكل صريح على بقاء بشار الأسد، فتقول الفقرة: "إن وجود المرحلة التحضيرية (وهي مرحلة يبتكرها ديمستورا على اعتبارها القسم الأول من المرحلة الانتقالية) يسمح ضمنياً باحتمال استمرار الرئيس في ممارسة بعض المهام خلال هذه الفترة، على الرغم من أن المسؤوليات الأساسية مثل الإشراف على الشؤون العسكرية والأمنية ستتولاها منذ البداية هيئة الحكم الانتقالي والتي تكون الحكومة الحالية ممثلة فيها". فرنسا هي الدولة الوحيدة الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي رفضت تلك الوثيقة، وبناءً على ذلك وضع ديمستورا مسودة جديدة سلّمها لكافة الأطراف المعنية، حذف فيها الفقرة (51) وبعض التفاصيل الأخرى ليجعل مصير الأسد غامضاً فيكتفي بذكر "الحفاظ على الصلاحيات البروتوكولية للرئيس".
هي استراتيجية ديمستورا ذاتها والتي بدأت تتجلى منذ ذلك الوقت عبر اختراعه الثلث الثالث - بالإضافة إلى ثلث النظام وثلث المعارضة - في مجموعات العمل الأربع ممن اعتبرهم خبراء وربما مستشارين له، وأصحاب رأي ملزم في بعض الأحيان بسبب "خبرتهم"، وضرب مثلاً: عبد الله الدردري. هي استراتيجيته في خلط الأوراق وبعثرتها، وفي أن يكون هو مايسترو العملية السياسية وليس مُيسّراً لها، الأمر الذي يعطيه الصلاحية المطلقة للوصول إلى النتائج التي خطط لها، أو بشكل أدق النتائج التي يُراد له لعب دور المنفذ للوصول إليها، والتي هي نفسها صيغة الإطار العام التنفيذي المذكورة في توصيته إلى مجلس الأمن.
وفي حركة بهلوانية، وإصرار منقطع النظير على تحقيق الهدف النهائي في تقزيم الحل السياسي السوري، انزلق ديمستورا بقوى الثورة والمعارضة مع عودة انطلاق قطار المفاوضات الرسمية في جنيف، من "مجموعات العمل الأربع" التي سبق ورفضتها إلى "السلال الأربع" عام 2017، وهي: هيئة الحكم الانتقالي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب، والتي اعتبرها غاتيلوف نائب وزير الخارجية الروسي سلالاً متساوية الأهمية يجب بحثها بشكل متواز.
لا بدّ أن نستذكر مقترح ديمستورا المشبوه حول "تجميد القتال في حلب" ووقف المعارك بالأسلحة الثقيلة في العام 2014 بعد أيام من انتصارات مهمة للثوار
ومنها إلى "الآلية التشاورية بشأن المسائل الدستورية والقانونية" في نفس العام، على اعتبارها الآلية التي ستضمن عدم وجود أي فراغ دستوري أو قانوني خلال عملية الانتقال السياسي المتفاوض عليها، ويرأس تلك "الآلية" مكتب ديمستورا مستعيناً بخبراء تابعين له حَرِص دوماً على دورهم كطرف ثالث ابتداءً من مقترح "مجموعات العمل الأربع"، ليس بسبب خبرتهم وإنما على اعتبارهم بيضة القبّان في معادلة مستعصية طرفاها النظام والمعارضة، والطرف الثالث هو الذي يتيح له تطويع المخرجات بما يتناسب مع التصوّر النهائي للحل. أبدت المعارضة تحفظاتها وطالبت بالتركيز على الهدف الأساس من مفاوضات جنيف: تحقيق الانتقال السياسي، والركن الأول من القرارات الأممية: تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، فسحب المبعوث الأممي المقترح ولكنه شرع بتنفيذه بشكل غير مباشر وبتواطؤ روسي بل ودولي.
ومثلما نجح ديمستورا في تجاوز البنود الإنسانية 12، 13 من قرار مجلس الأمن 2254، والمتعلقة بإطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار ووصول المساعدات الإنسانية والوقف الفوري للقصف العشوائي للمدنيين، على الرغم من اكتسابها صفة البنود فوق التفاوضية على اعتبار أنها واجبة التنفيذ الفوري، بحجة أن الأمم المتحدة ليس لديها أدوات ضغط وقوة لتنفيذ تلك البنود، وأن حلفاء الثورة والمعارضة مستكينون وغائبون بينما الروسي هو الفاعل على الأرض وفي ساحة جنيف، نجح أيضاً في اعتماد فكرة منصات المعارضة لتشتيت التمثيل وتمييع المواقف وتمرير قرارات لا يمكن أن تقبل بها القوى الحقيقية للثورة والمعارضة، وذلك عبر قبوله وتسويقه التفسير الروسي للقرار 2254 بوجود منصتَي موسكو والقاهرة. ويُضاف إلى نجاحاته براعته في "المشاركة في الرقصة الدائرة بين جنيف وآستانة وسوتشي" بعد أن سهّل شق مسار جديد مع الروس بذريعة فصل قضية الملف الإنساني عن الملف السياسي ليشكّل غطاء أممياً لمسار آستانة الذي ساعد على الحسم العسكري التدريجي لصالح نظام الأسد.
هو يغادر منصبه اليوم مستمراً ببيع أوهامه حول رغبة روسيا وقدرتها على دفع نظام الأسد إلى الحل السياسي، محتفظاً بدوره الحقيقي حتى الرمق الأخير في استسهال المساومات والتخلي عن المرجعيات الدولية لذلك الحل، وتزييف وحرف المسار السياسي عن حقيقته ليصبح تقاسم سلطة بين فرقاء سياسيين ولتصبح اللجنة الدستورية بمثابة النافذة الوحيدة الممكنة اليوم للتقدّم في العملية السياسية. نجح ديمستورا، وبكل أسف، في كل ما سبق بسبب تعاون بعض الأطراف والشخصيات المحسوبة على المعارضة الحقيقية معه، والتي لطالما منعت أي مطالبة فعلية بعزله معتبرةً تلك المطالب "ثورجية"، بل ومتشدّدة متطرفة تأتي من أطراف تريد تعطيل الحل السياسي.