يلتقي أهالي مدينة سلمية وسط سوريا مع أهالي الرقة ودير الزور شرقي البلاد، على عشق الغناء والطرب العراقي، ويقال عمن يستمع للأغنية العراقية بأنه جدير بالحب وبالحزن. قصص حب قامت بين فتيات "سلمونيات" وشبان عراقيين ومن شرقي سوريا والعكس صحيح، على أغان لـ ياس خضر وسعدون الجابر وفؤاد سالم وحميد منصور وسعد الحلي وناظم الغزالي ورياض أحمد وغيرهم، لتشرع المدينة أبوابها للفرح الحزين القادم من الشرق، ومع الحب والحزن تلتقي الرومانسية السياسية، التي أوقدتها أغاني الفلسطينيين، فمَن مِن "السلامنة" لا يعرف أغنية "من سجن عكا وطلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي" لفرقة العاشقين الفلسطينية!. وكم تناقل شباب المدينة سرا أشرطة "كاسيت" للشاعر الراحل مظفر النواب كانت ممنوعة في عهد حافظ الأسد، وكم مرة زار النواب وغيره من المطربين العراقيين المدينة الفقيرة لإحياء الفن والشعر والسياسة!، ويذكر للنواب جلسة خاصة في سلمية عام 1997.
ومن دون إهمال خصوصية المقامات العراقية، يقال إن الحزن في الأغاني العراقية كان نتيجة الأوضاع المضطربة التي عاشتها البلاد منذ عهد الخلافة، وصولا إلى التاريخ الحديث وروتين الانقلابات العسكرية والثورات والديكتاتورية، إذ تسمع الإيقاع الحزين حتى في المناسبات السعيدة، فالعراق يميل إلى الحزن، وقد يكون هذا ما جذب "السلامنة" إلى هذا اللون الطربي البعيد عنهم جغرافيا.
أما الأغاني السياسية للفلسطينيين التي تناهض الاحتلال الإسرائيلي، فقد وصلت إلى سلمية مع المد القومي العربي والشيوعي الذي شمل سوريا والمنطقة العربية، ففقراء سلمية ومثقفوها يميل القسم الأكبر منهم حتى اليوم إلى اليسار والقومية العربية.
سلمية.. سياسة وأغان عراقية
يقول الشاعر والأديب الراحل محمد الماغوط في قصيدة سلمية:
زهورها لا تتفتح في الرمال
لأن الأشرعة مطوية في براعمها
لسنابلها أطواق من النمل
ولكنها لا تعرف الجوع أبدا
لأن أطفالها بعدد غيومها
لكل مصباح فراشة
ولكل خروف جرس
ولكل عجوز موقد وعباءة
ولكنها حزينة أبدا
لأن طيورها بلا مأوى
الحزن كما يقول الماغوط أصبح ملمحا من ملامح المدينة التي تصحرت طبيعتها، وحاصرها نظام حافظ الأسد لأنها لم تقبل بانقلابه، وشن عمليات اعتقال ممنجهة طالت جميع الأحزاب، والاعتقال يناجي الحزن، ويقطع قصص الحب من ظهرها، لترتمي في حضن "الريل وحمد".
و"الريل وحمد"، التي غناها المطرب ياس خضر، هي قصيدة للشاعر مظفر النواب تروي قصة حب بين امرأة وابن عمها، لكن العادات والأعراف القبلية تمنع تزويجهما، فاضطرت المرأة إلى الهرب من جنوب العراق إلى بغداد، وعاشت حياتها هناك، وكلما صعدت قطار الجنوب الذي يمر في مضيف حبيبها تعود بها الذكريات.
ومن المعروف أن الراحل مظفر النواب كان شيوعيا معارضا لنظام الرئيس صدام حسين ومعارضا لحافظ الأسد، ومثله أيضا المطرب فؤاد سالم الذي سجن بسبب مواقفه السياسية، أما الفنان صباح السهل صاحب أغنية "بلاية وداع" فقد أعدم شنقا بعد أن انتقد عدي صدام حسين، في حين فر آخرون بأصواتهم مثل شوقية العطار وفرقة الطريق ولاحقا فؤاد سالم.
هذا الاندماج بين الغناء العراقي الحزين والفكر السياسي، كان عاملا في انتشار الأغنية العراقية في سلمية إضافة إلى الموقع الجغرافي والتراث الروحي.
وتاريخيا، كانت سلمية على تواصل عائلي وروحاني مع العراق، وحدثت هجرات ذات طابع ديني منذ أيام الإمام جعفر الصادق من الموصل إلى تدمر ومن ثم سلمية، حيث استقرت العائلات العراقية فيها.
ويرى باحثون محليون في التراث أن موقع سلمية لعب دورا في وصول الطرب العراقي، لوقوعها على أطراف البادية وطريق القوافل، خاصة بعد عمارها الأخير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما أن أهالي المدينة والريف ربوا الأغنام وكانوا يرسلون الرعيان إلى البادية وباتجاه الشرق ما جعلهم يتأثرون باللهجة العراقية لفظا وبشكل موسيقي.
كما كان "السلميون" يحزنون كما يحزن البدو وأفراد العشائر، فعند الوفاة تسود عادة الندب وشد الشعور وتجريح الوجوه إلا أنها اندثرت لاحقا بحسب كتاب "سلمية في 50 قرناً"، ويضيف المرجع أنهم واجهوا المجتمع القبلي بنفس المشاعر، أي عاملوا البدو بمشاعر بدوية وأنظمة عشائرية بدوية.
من سلمية إلى عكا
بهذه الملامح البدوية القاسية والرهيفة، وقبل وعقب استقلال سوريا، انتشرت أحزاب مختلفة في المدينة (الحزب الشيوعي السوري ـ رابطة العمل الشيوعي ـ القومي السوري الاجتماعي- حزب البعث - الحزب الناصري - حزب العمال الثوري - الكتلة الوطنية)، ومعظمها كان مؤيدا لحق الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم.
والقضايا الصعبة العادلة لا تنسى، هكذا يقول "سلموني" سبعيني مقيم في فرنسا، مكتوب على حائطه في فيس بوك "أنا لا أنساك فلسطين".
كان للأحزاب الماركسية القومية مثل العمال الثوري موقف مختلف عن بقية الأحزاب، إذ كان عدد من الآباء الروحيين للقومية العربية فلسطينيين، وساندت الأحزاب الشيوعية القضية الفلسطينية باعتباها قضية عادلة، في حين اعتبر الخط الماركسي القومي تحرير فلسطين أولوية تسبق الوحدة السياسية العربية، وتذكر مصادر محلية عن التحاق مقاتلين من سلمية بثورة الحسيني ( 1936 وامتدت حتى عام 1939) في فلسطين مثل سامي الشعار وآخرون من آل محفوض والجندي وعطفة حيث استشهد عدد منهم هناك، وقتئذ كانت سلمية مرتعا للنضال السياسي المبكر.
أما أغنية "من سجن عكا" التي غنتها فرقة العاشقين وحفظتها أجيال من "السلامنة"، فهي مرثية من كلمات الشاعر الشعبي نوح إبراهيم كتبها للشهداء الثلاثة عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم الذين أعدمهم الانتداب البريطاني في فلسطين يوم الثلاثاء 17/6/1930 بسبب دورهم البطولي في انتفاضة البراق التي عمت أرجاء فلسطين ضد الغزو والهجرة الصهيونية إلى البلاد في العام 1929.