استأنفت محكمة "كوبلنز" في ألمانيا، جلساتها في محاكمة الضابط السابق في نظام الأسد (أنور رسلان) والمجنّد (إياد الغريب)، وخلالها استمعت المحكمة لـ شاهد شارك بدفن عشرات آلاف الجثث في محيط العاصمة دمشق.
ووافقت محكمة "كوبلنز" لـ أول مرّة في جلستيها الـ 30 والـ 31 على الاستماع لـ شهادةِ شاهد أبقت هويّته سريّة، وامتنعت عن ذكر معلوماتهِ الشخصيّة، وذلك حرصاً على سلامةِ أهله وأقربائه في سوريا.
أٌطلق على الشاهد الجديد رمز (Z 30.07.2019)، وهو مدني كان يعمل - وفق قوله - قبل بداية الثورة السوريّة في مجال "دفن الموتى" (حفّار قبور) بمدينة دمشق.
الشاهد سرد للمحكمة معلومات عن كيفية تطويعه مِن قبل ضباط نظام الأسد لـ تشكيل مجموعة تتراوح بين عشرة إلى 15 شخصاً مِن أجل نقل الجثث إلى المقابر الجماعية، وذلك أربع مرات في الأسبوع، حسب موقع "tagesschau".
نقل جثث المعتقلين عبر شاحنات تبريد
في الشهر العاشر تقريباً مِن عام 2011، أُرسل اثنان مِن الضباط للشاهد الذي جمع نحو عشرة عمّال مدنيين تحت إشرافه، وأصبحا يجبران المجموعة على الذهاب برفقتهم إلى المشافي العسكرية، لـ ينقل الجثث إلى شاحنة برّاد كبيرة أو شاحنتين، ومرافقتها إلى أماكن معيّنة لـ دفن الجثث فيها ضمن مقابر جماعية.
وأضاف الشاهد أنّه عَمِل مع الضباط منذ عام 2011 وحتى عام 2017 دون السماح لهم بأخذ أي إجازة خلال تلك السنوات، وأن كل عملية دفن كانت تبدأ قرابة الساعة الرابعة فجراً وتنتهي بحدود الساعة التاسعة صباحاً.
وقال الشاهد إنّ عدد الجثث في كل شاحنة برّاد قد يصل من 500 إلى 700 جثة، الأمر الذي عرفوه مِن الضباط الذين يأمرونهم بتسجيل عدد الجثث مِن كل فرع أمني، وثم إحصاء العدد الكلي، متحدثاً عن الأمر ذاته بالنسبةِ للمشافي المدنيّة، و"سجن صيدنايا" (المسلخ البشري).
لم يتمكّن الشاهد مِن تحديد أي فرع أمنّي مسؤول عن أكبر عددٍ مِن الجثث، إلّا أنه سمع الضبّاط يتحدّثون فيما بينهم عن نشاط أفرع أمنيّة في أيام معيّنة والتنافس فيما بينها، كالقول مثلاً "أفرع أمن الدولة نشطة اليوم"، ما يعني أنّ الجثث القادمة منها أكثر مِن الجثث القادمة مِن الأفرع الأمنيّة الأُخرى.
وحدّد الشاهد المستشفيات التي تُنقل منها الجثث وهي "مستشفيا حرستا وتشرين العسكريان، ومستشفيا المواساة والمجتهد المدنيان"، وعن المشافي المدنيّة قال إن هناك مَن أخبره مِن داخل مشفى المجتهد أنهم "لا يقومون فقط باستقبال الجثث مِن الأفرع الأمنيّة، بل هناك عمليات قتل داخل المشفى أيضاً".
نحو 4 عمليات دفن أسبوعياً في نجها والقطيفة
وأشار إلى عدد مرات نقل الجثث ودفنها، بأن هناك 3 إلى 4 عمليات دفن خلال الأسبوع الواحد، ومرّة أو مرتين في الأسبوع للمشافي العسكرية، ومرتين أو ثلاث في الشهر لـ صالح المشافي المدنيّة، ومرتين أسبوعياً لـ صالح "سجن صيدنايا"، وذلك بمقدار سيارتين إلى ثلاث سيارات لـ كل عملية نقل مِن السجن.
وعن أماكن دفن الجثث، حدّد الشاهد مكانين هما منطقة نجها (15 كم عن مدينة دمشق) - سبق أن ذكرها شاهد آخر في وقتٍ سابق، ومنطقة القطيفة (تبعد 35 كم عن مدينة دمشق) التي تُذكر لأول مرة خلال هذه المحاكمة، وكلا المنطقتين أرض عسكرية يُمنع المدنيون دخولها.
وأضاف الشاهد أن جميع الأفرع الأمنية كانت ترسل جثثها إلى هذين المكانين، ما عدا الجثث القادمة مِن "الفرقة الرابعة" (التابعة لـ ماهر الأسد)، حيث تدفن الجثث في مطار المزة العسكري تحت مدرّج الطيران، وفرع المخابرات الجوية التي تدفن الجثث داخل الفرع نفسه.
لم يكن ميّتاً فدهسوه بالجرّافة
كذلك، تحدّث الشاهد عن حجم المقابر الجماعية في منطقتي نجها والقطيفة قائلاً إن مساحة الحفرة الواحدة قد تصل لـ 5000م² بعمق يصل إلى ستة أمتار، ولا يتم إغلاق الحفرة مرة واحدة وإنما على دفعات، حيث يُردم جزء منها حسب عدد الجثث في الدفعة الواحدة.
وأثناء مشاركة الشاهد في دفن جثث "سجن صيدنايا" أوضح قائلاً "لم تنبعث منها رائحة لأنها جثث حديثة، أخبرنا الضباط أنهم أُعدموا في اليوم نفسه.. غالباً يبدأ الإعدام الساعة 12 ليلاً، ويتم الدفن الساعة 4 فجراً، ولكنني رأيتُ آثار الحبل الملتف على رقابهم وآثار التعذيب أيضاً، وعموماً كانوا يأتون مكبّلي الأيدي مع أرقام ورموز مكتوبة على ملصقات وُضِعت على جبهات وصدور الجثث، وقد حدث ذات مرة أن أحدهم لم يكن ميتاً بعد بل كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأمر الضابط أن تمر الجرافة فوقه".
جثث مشوّهة وعمليات دفن سريّة
لفت الشاهد إلى أن العمال الذين كانوا برفقته أخبروه عن وجود جثث لـ نساء وأطفال (ذكور وإناث)، مشيراً إلى رفض الضبّاط بدفن النساء في أماكن مخصّصة، مٌخبراً المحكمة عن رؤيته شخصياً لـ جثة امرأة مقتولة تحتضن رضيعها المذبوح بين يديها، وأن الأمر تسبّب بانهياره حينها.
وعن شكل الجثث القادمة مِن الأفرع الأمنيّة قال الشاهد إن العمال أخبروه بأن ملامح الوجوه غائبة تقريباً ومشوّهة، وكان ذلك - وفق رأيهم - نتيجة استخدام مواد كيمياوية لإذابتها كـ الأسيد، لاستحالة تآكلها بطريقة طبيعية أو نتيجة تعذيب.
وتتوافق إفادة الشاهد مع ما نشرته منظمة العفو الدولية في تقريرها التي شبّهت فيه سجون نظام الأسد بـ"المسلخ البشري"، يُذبح فيه البشر بهدوء.
اقرأ أيضاً.. كيف حوّل "الأسد" ضحايا التعذيب لـ متوفين بـ"سكتة قلبية"؟
وأخبر الشاهد قضاة محكمة "كوبلنز" أيضاً عن عمليات دفن كانت سريَّة وخالية مِن الوثائق والأرقام تبدأ الساعة 12 ليلاً، وتكون بحضور ضبَاط من رتبة عميد وأعلى برفقة عسكريين مسلحين.
فرع الخطيب
وجّه القضاة محكمة "كوبلنز" سؤالاً عن "فرع الخطيب" تحديداً ما إن كان يُرسل جثثاً أيضاً، وأجاب الشاهد قائلاً إنّ الأفرع الأمنية جميعها أرسلت جثثاً ويبلغ عددها تقريباً 15 فرعاً أمنياً وإن "الخطيب" كان من بينها.
وأضاف أنّ عدد الجثث خلال الأعوام الستة التي عمل فيها بلغ - وفق تقديره الشخصي - مليون إلى مليون ونصف المليون جثة، ثم أردف قائلاً "ربما 2 أو 3 أو حتى 4 مليون جثة، لا أدري ولكن العدد كبير جداً".
وذكر الشاهد حصة فروع أمن الدولة (فرع الأربعين والخطيب وإدارة المخابرات العامة) من الجثث، فقد بلغت - حسب تقدير الشاهد - 50 ألف جثّة مِن الشهر العاشر 2011 وحتى نهاية العام 2012، وأن العدد بعد ذلك أصبح يقدّر بنحو 25 ألف جثّة سنويّاً مِن أفرع أمن الدولة فقط.
حسب ما نشره موقع "tagesschau" فإن الشاهد كان يتحدّث مِن دون توقف، وأن أقواله ليست دائماً واضحة ومفهومة وبعض الأرقام غير منطقية، ولكن "كيفية وصف عمله لا تدع للحاضرين في قاعة المحكمة مجالًا للشك بصحتها".
ومنذ انطلاق المحاكمة في مدينة كوبلنز الألمانية، يوم 23 نيسان الماضي، والعالم يستمع للمرة الأولى، بصدمة شديدة لِما يعيشه السوريون منذ نحو عشر سنوات، مِن اعتقالات تعسفية، وعمليات قتل تحت تعذيب، ومقابر جماعية تضم جثث المعتقلين في سجون نظام الأسد.
اقرأ أيضاً.. ألمانيا تبدأ بمحاكمة ضابطين منشقين عن النظام بتهم القتل والتعذيب
يشار إلى أن هذه المحاكمة غير متعلقة بالدولة الألمانية، لكن وحسب قوانين حقوق الإنسان المطبّقة في ألمانيا، يمكن إثبات انتهاك حقوق الإنسان مِن خلال الأدلة والشهود، لهذا لا تهدف هذه المحاكمة فقط لإدانة المتهمين، ولكن لإدانة نظام الأسد بالكامل.