قبل أقل من 3 سنوات وفي أثناء البحث عن قصص السوريين في أنحاء العالم لتغطية أحوالهم سواء في النجاحات أو المعاناة، كان الكاتب السوري ميخائيل سعد قد نشر على حسابه بموقع فيسبوك أنه قد انتقل إلى السنة الثانية في قسم التاريخ بجامعة ماردين بعد أن حصل في امتحانات السنة الأولى على 91.7% في معدله العام.
لفتتني قصة ميخائيل سعد الذي كان يبلغ من العمر 72 عاماً، فأرسلت له لإجراء حوار معه عن السبب الذي يدفع سورياً بهذا العمر ليبدأ دراسته من جديد في مدينة بعيدة جنوبي تركيا، دون عائلته وهو بهذا السن، وافق على طلبي وأرسلت له الأسئلة ولكن بسبب السفر وضغط الامتحانات فيما بعد تأجل الموضوع، إلى أن تخرج فعدت وطلبت منه، فكان هذا الحوار المطول الذي يجيب عليه بقلمه وضمن مساحة حرة له، إليكم قصته:
- يطمح أي شاب مهتم بدراسته الأكاديمية ليدرس في الجامعات الغربية، أنت مقيم في كندا منذ عقود، لماذا اخترت تركيا للعودة إلى مقاعد الدراسة الجامعية؟ هل هو حنين مهجر سبعيني إلى الشرق؟
أولا أريد تثبيت بعض الأشياء قبل الإجابة على الأسئلة منها أنني لا أحب استخدام الشعارات للتعبير عن حالتي الشخصية، فما أكتبه هو حالتي حرفيا.
لم أستطع الالتحاق بالجامعة في كندا، فأنا لا أعرف الإنكليزية، وقد تعلمت الفرنسية بما يخدم حياتي اليومية. بعد أن أنهيت فترة التعلم الأولى، وهي سبعة أشهر، قرأت بعدها رواية فرنسية صغيرة عن القطب الشمالي والعيش فيه، بمساعدة القاموس والمخيلة، وحلمت بدراسة الأدب المقارن، وقد اخترت الموضوع وهو المقارنة بين "صحراء الثلج وصحراء الرمل"، أدرس فيه أثر الثلج على الإنسان، ومحاولة الإنسان التكيف مع الطبيعة، ثم محاولته إخضاع الطبيعة (الثلج) له، وكذلك في الصحراء والرمل، على أمل أن أكتشف عناصر التشابه بين الصحرائين على الإنسان، ومحاولة الأخير إخضاع الطبيعة لحاجاته، بمعنى رصد التفاعل المتبادل بين الإنسان والطبيعة.
في السنة الثانية لتعلمي الفرنسية، كانت تدرسنا امرأة قديرة، ومعلمة ماهرة، وهي يهودية مغربية، وكانت في عمري تقريبا (41 سنة)، وعلاقتنا الشخصية ودية، فعربيتها سمحت لي أن أتمازح معها عن الصهيونية والعروبة (كنت بعثيا معارضا لنظام الأسد حتى خروجي من السجن 1977، فقد تركت البعث ولكن بقيت معارضا للأسد). في إحدى لحظات الضحك سألتها: هل أستطيع الدخول إلى الجامعة لدراسة الأدب المقارن، وتحديدا المقارنة بين رواية الثلج الكيبكية ورواية الصحراء العربية؟
عبست المعلمة قليلا، ثم قالت: لن تستطيع، فأنت، وبعد سنة ونصف من تعلم الفرنسية، مازلت تفكر بالعربية عندما تحاول أن تتكلم الفرنسية، كما أن تخصصك السابق بدراسة اللغة العربية سيكون عائقا أمام تعلم الفرنسية. لن تستطيع تكلم الفرنسية كما تتكلم العربية.
كان كلام المعلمة صحيحا، فقد مضت سنوات على وجودي في مونتريال ولم أستطع تعلم فرنسية الثقافة، ربما لأنني لم أبذل الجهد الكافي، فهجرت فكرة الجامعة، وتوجهت إلى النشاطات العربية (صحافة وجمعيات). أما لماذا اخترت تركيا فهذا أمر آخر لا علاقة له بالدراسة، ففي عام 2013 دعاني أحد الأصدقاء لحضور مؤتمر سياسي (كلنا سوريون) في إسطنبول، فحضرت المؤتمر وندمت، فقد كنت قد قررت بعد حضوري مؤتمر جبهة الخلاص في لندن عام 2006 أن لا أحضر أي مؤتمر للمعارضة، ولكن إلحاح الصديق جعلني أشارك وأعيد اكتشاف عجز السوريين المعارضين، مهما كان لونهم، عن توافقهم على الحد الأدنى لمفهوم الوطن والوطنية.
بعد نهاية المؤتمر أخذني أحد الأصدقاء لرؤية (الجامع الأزرق)، كانت دهشتي لا توصف، وتفجر كل شوقي وحنيني إلى سوريتي وثقافتي الإسلامية، وقررت أن أرمم نواقصي في هذه الثقافة، فعقدت العزم على الحضور سنويا إلى إسطنبول، التي سرعان ما غدت بالنسبة لي سوريا المحروم من زيارتها، ففيها آلاف السوريين، ومن بينهم كثير من الأصدقاء، كما قررت زيارة كل الأماكن التاريخية الإسلامية وغيرها، وهي كثيرة، فالإنسان في تركيا يشعر أنه في متحف مفتوح يضم حضارات العالم وكتبت فيها مئات المقالات.
بعد سنوات، وفي إحدى الجلسات التي ضمت مثقفين ومعارضين سوريين، كان بجانبي الدكتور عبد الناصر الجاسم، الذي كان مدرسا في جامعة ماردين، قال لي: أدعوك لزيارة ماردين، يوجد سكن مجاني ومعي بطاقة طائرة مجانية، فما رأيك؟ لم يكن هناك من مبرر للتفكير، قبلت الدعوة وذهبت وكانت دهشتي الثانية، فأنا في ماردين، في طور عابدين، في بدايات المسيحية، وفي تخوم الإمبراطورية الرومانية مع الإمبراطورية الفارسية، في مدينة فيها آثار من حضارات إسلامية؛ عربية، سلجوقية، أرتوقلية، عثمانية، بالإضافة إلى آثار تعود إلى زمن الآشوريين والرومان والبيزنطيين، في مدينة تتراكم على أرضها 25 حضارة، فكيف لا أصاب بالدهشة، وأنا الذي يحب التاريخ. وكأن الدكتور عبد الناصر الجاسم والدكتور مسلم طالاس قد لامسا رغبتي في البقاء في المدينة فقالا لما لا تسجل بالجامعة وتدرس التاريخ باللغة العربية؟ وهكذا تم دخولي إلى الجامعة. أما الحنين إلى الشرق وسوريا خاصة، فقد نشأ بعد أن عشت تفاصيل المدينة.
- كيف تم التسجيل في الجامعة مع قدم الشهادات التي تمتلكها؟ ما التحديات التي واجهتكم خصوصاً بما يتعلق بالبعد عن العائلة؟
الشهادات القديمة مقبولة في جامعة ماردين، لذلك تولى الدكتور عبد الناصر الجاسم تصديق صورة شهادة البكالوريا (1968)، من قبل الحكومة المؤقتة في غازي عنتاب، وترجمها إلى التركية، ثم أرسلها إلى الدكتور مسلم طالاس، الذي حملها إلى مديرية التربية في ماردين، فسأله الموظف: أين الولد صاحب الشهادة، ضحك الدكتور مسلم وقال له: انظر إلى عمر "الولد"، دهش الرجل وقال: أريد أن أرى هذا الطالب ابن الـ71 سنة. ووعده الدكتور أن يصطحبني إليه كي يراني، ولكن للأسف، فقد سافر الدكتور مسلم إلى ألمانيا قبل وصولي إلى ماردين، ولذلك لم ألتق الرجل الطيب.
أما مسألة البعد عن العائلة، فقد كانت شبه محلولة، فأنا لست مسؤلا عن أحد، فالأولاد في بيوتهم، مع زوجاتهم، وأمهم تعمل من الصباح إلى المساء، وبعد أربعين عاما من الزواج يتبخر الحب والأشواق، وتبقى خدمات الزوج أو الزوجة، من طبخ وتنظيف البيت وشراء أغراض وتسوق، يمكن للأولاد القيام بهذه المهام في غيابي. أما الحنين فقد تكفلت به وسائل التواصل الاجتماعي المجانية، فهناك موعد ثابت نتكلم فيه عبر الفيديو كل سبت، نبث أشواقنا خلال ربع ساعة دون (خناق)، ويعود كل منا إلى قواعده سالما.
- أنت لم تتفوق بالدراسة فقط، بل حزت الصدارة بكونك الأول على قسم التاريخ في جامعة ماردين بعمر الـ 75 عاماً؟ هل يمكن أن نصف الأمر على أنه عقل شيخ وقلب شاب اجتمعت في ميخائيل سعد؟
سأل أحد الزملاء في الصف، من باب الغيرة، أحد الدكاترة: لماذا ميخائيل سعد ينال دائما علامات عالية في الامتحانات، أليس في الأمر ما يثير الشبهات؟
ضحك الدكتور وقال له: عند ميخائيل ميزة ليست موجودة عندكم؛ الخبرة الطويلة بالقراءة والكتابة، وخبرة الحياة، وحضوره كل المحاضرات، وهذا يجعله قادرا على كتابة أكثر من صفحة في الامتحان، بينما أنتم عليكم حفظ الدروس جيدا، وإلا فلن تستطيعوا منافسة ميخائيل.
من ناحيتي، أقول لك علنا إنني لم أفكر يوما في عمري، ما دمت قادرا على الحركة، بالإضافة إلى شغفي بالسينما والرواية، والآن بالتاريخ. أشعر بالخجل إذا تأخرت يوما عن الدرس، وأتابع المحاضرات بانتباه شديد، ليس فقط من أجل الامتحانات، فأنا لا أفكر بالعلامات فعلا، ولكن كي أتمكن من مناقشة الأساتذة ومحاججتهم فيما يقولون، فأنا أكبرهم عمرا، ويبلغ عمري أحيانا ضعف عمر بعضهم، لذلك أخجل عندما يطرحون علي سؤالا لا أعرف الإجابة عليه، ثم هناك صبايا في الصف وأنا أرغب أن أكون محبوبا من قبلهن.
ليست الأعمار، إنها الرغبات يا صديقي.
- لو عدنا بالتاريخ إلى الوراء، ما أكثر الأشياء التي تذكرها عن سوريا وتذكرتها في مقر إقامتك الجديد، في الطرقات والأزقة والساحات والكنائس والجوامع القديمة؟
بعد 35 سنة من الغياب عن سوريا، غابت عن الذاكرة كثير من التفاصيل الصغيرة عن الحياة اليومية، ولكن فجأة وجدت نفسي في سوريا عندما استقريت في مدينة ماردين. كانت رؤية صوبيا المازوت في الشارع، معروضة للبيع، من الأشياء التي أعادتني إلى حمص، كان الإسكافي، ومنجد الفرش، واللحام، ورؤية الدجاج في الشوارع، وصياح الديكة ونباح الكلاب، والتعاطف والمودة بين الناس، ورؤية زعران الشواع، كل ذلك أعادني إلى سوريا، وكأنني أعيش في حمص.
زرت بعض الكنائس بدافع تاريخي أكثر مما هو بدافع ديني، فأنا لا أمارس العبادات منذ طفولتي، لذلك كان همي هو رؤية نمط العمارة، وتاريخ بناء الكنائس والجوامع، لمعرفة العصور التي بينت فيها هذه المعابد، وهذا شيء لم أعرفه عندما كنت في سوريا. كانت العلاقات بين البشر تشبه ما كان في سوريا قبل أربعين عاما، وهذا ما جعلني أشعر بالحنين إلى سوريا، وبعد مرور بعض الوقت أصحبت أشعر أن ماردين هي سوريا، رغم تعدد اللغات المنطوقة فيها، وخاصة التركية والعربية والكردية والسريانية، فأنت هنا لست بحاجة لمترجم، تتكلم العربية في كل مكان، ودائما تجد من يرد عليك بالعربية.
- أظن أن اختيار دراسة التاريخ لم يكن عشوائياً أو المتاح فقط، خصوصاً في جامعة ماردين، المدينة التاريخية ذات الأصل العربي قبل معاهدة لوزان (ولاية تركية اليوم)، كما أنها كانت مركزاً أسقفياً مسيحياً في القرون الغابرة، وإسلامياً كذلك، ويتحدث أهلها إلى اليوم عدة لغات بينها العربية والكردية والآرامية فضلاً عن التركية؟
في جامعة ماردين أكثر من فرع يعطي الدروس باللغة العربية، إلى جانب التاريخ، يوجد علم الاجتماع، والإدارة، والعلوم السياسية والتمريض. ويمكن للطالب الاختيار، شخصيا أحب التاريخ، أحب الحكايات منذ طفولتي، وحديثا أحب التاريخ والتنقيب فيه بحثا عن هويتي أو عن جزء من مكونات هويتي، وكلما أوغلت في دراسة التاريخ اكتشف عبثية البحث عن هوية فيه، فالتاريخ هو لجميع البشر، يختار بعض المعاصرين جزءا منه كي يبنوا هوياتهم المحدثة عليه.
- بعد كل تلك السنوات في كندا البلد المتقدم والذي منحك المواطنة، ما الذي يدفع سبعينياً ليخوض هذه التجربة في بلد نامي بأحد مدنه البعيدة؟
أنا بطبعي سريع التأقلم مع البشر والجغرافيا، وأحب السفر واكتشاف عوالم جديدة، وخاصة إذا كان فيها آثار كما في تركيا. زرت عشرات المواقع الأثرية، وفي كل مرة يزداد إعجابي بقدرات الإنسان، وأحاول قراءة عبقريته في الحجر والتصميم وتدوير الزوايا، وأحاول تخيل رحلته عبر ملايين السنين، وصولا إلى عصرنا الحالي. لا تعنيني كثيرا الرفاهية، أي طعام يسد جوعي، أي ثياب تستر جسدي، أما البحث عن الإنسان فلا أشبع منه، مع كل أثر تاريخي تركه الإنسان وأراه اكتشف جزءا من ذاتي الإنسانية. أتمنى لو كنت أصغر عمرا وأوفر مالي لأجول العالم. هذا جزء من حلمي، لذلك وصلت إلى ماردين، وتعلمت كثيرا فيها ومنها.
- كيف كانت الحالة التعليمية في الجامعة، الأصدقاء والأساتذة، هل وجدت فرقاً بينها وبين جامعة دمشق في سبعينيات القرن الماضي؟
كنت طالبا جامعيا في دمشق ما بين 1975-1970، وفي الوقت نفسه كنت مدرساً للطلاب في المرحلة الابتدائية، يعني لم يكن بمقدوري الدوام في الجامعة، كنت أحضر إلى الجامعة شهر الامتحانات فقط، بمعنى أنني لم أعش حياة جامعية في سوريا، وبالتالي المقارنة مع تجربة ماردين غير ممكنة.
في ماردين كنت طالبا بكل معنى الكلمة، أحضر كل الدروس، وأحيانا أكون الطالب الوحيد في الصف. كان الأساتذة أصدقاء خارج الصف، وفي الدرس هم أساتذة. كان أعمار الطلاب تتراوح ما بين العشرين والأربعين من العمر، وتعاملت مع الجميع كزملاء وزميلات، لم يكن العمر حاجزا بيني وبين الآخرين، بل كان أحيانا يسهل العلاقة مع الأصغر عمرا، بالمناسبة لا يوجد في جامعة ماردين من هو أكبر عمرا مني، وهذا منحي بعض الامتيازات.
الحياة التعلمية ينقصها كثير، لأن مقومات الكلية الجامعية من تجهيزات وأساتذة ووسائل تعليمية لم تكن متوافرة، كانت النوايا أكبر من الموجود، ومع ذلك كانت الكليات العربية في الجامعة فرصة مهمة أمام الطلاب السوريين بشكل خاص، في جميع الأحوال، وظيفة الجامعة هي تقديم المفاتيح للطالب الذي يريد التعلم.
- في ظل الفرق العُمري بينك وبين زملائك من الطلبة، هل كان هناك فجوة بين الأجيال المختلفة أم كانت فرصة لأفكار جديدة وتجدد مستمر على الصعيد الإنساني والمعرفي أيضاً؟
لم أشعر بالفرق بيني وبين الطلاب إلا عند صعود الدرج، أو صعود شوارع ماردين، فكلها تشبه درج البنايات العالية، كان جسدي يخونني، ويقول لي: تمهل، توقف. غير ذلك كنت أشعر أنني طالب عشريني، وكنت متفوقا، بحكم العمر، على الشباب بمغازلة الطالبات، كنت دائما محاطا بالصبايا، وهذا بحد ذاته كان يمنحني سعادة إنسانية عميقة، فالمرأة عندها كثير من الحنان والعطف على الأطفال وكبار السن، وكنت أستغل ذلك بكل شفافية. خلاصة الأمر، كنت طالبا جامعيا بكل معنى الكلمة في الأفكار والأعمال، وهذا منحني عمرا جديدا.
- في جولة على حسابك الشخصي بموقع "فيسبوك" نشاهد "يوميات ماردينية" عن أحداث مرفقة بالصور والقصص، هل يوثق ميخائيل سعد قصص السوريين على حسابه؟
ليس عندي خطط لفعل ذلك، أكتب عن أي شيء يثير اهتمامي. تمر لحظات أحلم فيها بتأليف كتاب عن ماردين- الحياة اليومية، وأراني ملولا، رغم أن الحلم ما يزال يراودني أكثر من مرة.
- "أنا أحد السوريين الذي حولتني الثورة من أخرس إلى حكواتي"، هل تعتقد أن عبارتك هذه تصف نموذجاً لواقع السردية السورية التي نعيشها؟
نعم، لقد فجرت الثورة كل كوامن النفس عند الإنسان السوري، منهم من تحول وأصبح كثير الكلام كحكواتي مثلي، ومنهم من حاول التعبير بأساليب متنوعة، في السينما والفن التشكيلي، والشعر، والرواية، والسفر بحرا حتى الموت، والقتال حتى الموت، وكل الأنشطة الإنسانية، لقد كسرت الثورة كل القوالب الثقافية والاجتماعية والأخلاقية السابقة. ربما لم نر بعد كل ما غيرته الثورة في الإنسان السوري، فهذا يحتاج إلى وقت، وربما إلى أجيال، ولكن المؤكد أنها خلقت إنسانا جديدا، حتى لو كان يرتدي الثياب القديمة أحيانا. لذلك أرى أن الثورة قد انتصرت، ليس وظيفة الثورة تسلّم الحكم، وظيفتها خلق الإنسان الجديد، وهذا ما فعلته الثورة السورية، من يعرف النظام السوري جيدا يعرف عظمة السوري وعظمة ثورته.
- هناك صورة جمعتك مع المفكر السوري الراحل الشيخ جودت سعيد، كيف كان ذلك اللقاء وما الذي ما زلت تذكره من نقاشكم؟
عرفت الشيخ المفكر جودت سعيد قبل تاريخ الصورة، فقد عرفته في مونتريال قبل الثورة، وحضرت بعض الجلسات التي تحدث فيها، وكنت ضد ما يقول على طول الخط. كنت متحمسا للعودة إلى سوريا، ومع إسقاط النظام بأي وسيلة، كان الشوق إلـى سوريا يأكلني. وخاصة عندما يكون المهاجر أو اللاجىء فاشلا في تأقلمه مع المحيط الجديد، فيزداد تشدده في كل شيء، مما يفقده القدرة على الرؤية السليمة، هكذا كنت، ومع بدايات الثورة ازدادت رغبتي في رؤية النظام قتيلا، وكنت ضد الحلول السلمية، كنت مع القتال وضد أسلوب الشيخ الجليل جودت سعيد. كان لا بد من الوقت حتى أكتشف أنني كنت مخطئا، وأن جودت سعيد على صواب، فملت إليه، وبدأت أسمع له.
صدف أن التقيته في إسطنبول، أظن عام 2014، في حوار عن الأديان، في مؤسسة "اليوم التالي" التي كان يديرها الصديق وائل السواح، هناك تعرفت إلى عبد الرحمن الشاغوري، ابن أخت الشيخ. في أحد الأيام اتصل بي عبد الرحمن يدعوني لزيارته في إسطنبول الآسيوية، فقلت له مازحا: اسأل خالك الشيخ جودت، هل يحق لي، إذا أسلمت، أن أتزوج أربع نساء؟ ضحكنا وقال: تعال واسأله بنفسك. وكان اللقاء مع الشيخ الذي استمر ساعات، وقد تحدث دون ملل عن أفكاره، التي كانت تتمحور حول قضايا مركزية، لا أستطيع تذكر كل عناوينها، ولكن يمكنني ذكر بعضها مثلا: تشديده على أهمية احترام حقوق المرأة في الإسلام ودعوته للسلام والتعايش ومكافحة التطرف والتسامح بين الأديان والاعتدال والوسطية في الدين مع العدل والمساواة في جميع جوانب الحياة.
- لا أدري ما الذي يمكن أن نطلقه على قصتكم؛ قصة نجاح أم تحدٍّ؟ هل تريد الاستمرار في الدراسة؟ وماذا تقول للسوريين اليوم شباباً كانوا أو كهولاً أخرجوا من ديارهم بغير حق وانتشروا في أصقاع العالم؟
نعم سأكمل مشوار التعلم من خلال دراسة الماجستير في التاريخ.
كما أنني لست مؤهلا لتقديم النصائح، قصتي قصة عادية، حاولت أن لا أستسلم للتقاعد القاتل، راتبي التقاعدي الذي تعطيني إياه الحكومة الكندية يسمح لي بالسفر والعيش في البلدان الفقيرة، كنت أتمنى أن تكون سوريا، وجدت ماردين أمامي بالصدفة فعشت الصدفة وحولتها إلى صدفة دائمة، كنت أقول لمن يسألني: لماذا أنت هنا؟ أجيب: أريد العيش كما أرغب، الحياة هنا تشبه حياتي السورية قبل نصف قرن، أحاول استعادة ذلك الزمن، وأعرف أنه وهم، ولكنه وهم جميل، أريد الموت في الشوارع وأنا أغازل فتاة. نصيحتي الوحيدة هي: عيشوا حياتكم بحرية يا شباب، وارفضوا الاستبداد أينما كان، فالفرص لا تتكرر.