على الرغم من كثرة الآراء والمواقف والتصورات التي واكبت الأحداث التي انطلقت مؤخراً في مدينة قيصري التركية وبعض المدن الأخرى، وكذلك في مدن شمال غربي سوريا، فما يزال المشهد يحتاج إلى إحاطات أكثر عمقاً، بعيداً عن ردود الأفعال الحانقة والمشاعر الآنية الباعثة على الانفعالات والتوتر.
باتت قضية اللاجئين السوريين في تركيا منذ سنوات من أبرز الأوراق التي تحاول بعض الأحزاب والقوى السياسية استثمارها في سياق التنافس الداخلي بين المعارضة والحكومة، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ قناعة عامة لدى أكثرية الشعب التركي بضرورة إخلاء تركيا من اللاجئين السوريين الذين لم يعد وجودهم يجسّد عبئاً على الاقتصاد التركي فحسب، بل باتوا جذراً لجميع المشكلات التي تعاني منها تركيا وفقاً لادعاءات بعض شخصيات المعارضة التركية، الأمر الذي ترك تداعيات شديدة المخاطر على حياة السوريين من حيث القوانين الناظمة للعمالة أو من جهة الحد من حرية التنقل بين الولايات وكذلك من جهة التضييقات الكثيرة التي باتت تمارس على السوريين.
من جهتها لم تستطع الحكومة التركية إيقاف الضخ الإعلامي لخطاب الكراهية والتحريض الذي تمارسه المعارضة على السوريين، فوجدت في كثير من الأحيان أن المخرج الأمثل يكمن في استباق ما تروّج له أحزاب المعارضة بالقيام ببعض الإجراءات التي توحي بأن حكومة أنقرة تشاطر الشعب التركي وقواه المعارضة قلقها وضيقها من وجود اللاجئين، وهي تسعى – في سبيل ذلك – إلى إيجاد حلّ قريب عبر تهيئة العوامل والظروف المساعدة إلى إعادتهم إلى بلادهم.
ولعل تلك المسايرة الحكومية للرأي قد ضاعفت من معاناة اللاجئين باعتبارهم الطرف الأضعف الذي عليه أن يتحمل سخط الشارع التركي وإجراءات التضييق الحكومية معاً. ولكن على الرغم من ذلك لم يكن أمام السوريين سوى مزيد من بذل الجهود للتصالح مع ظروفهم والواقع المفروض عليهم من خلال تحاشي أي تصادم من شأنه أن يثير حفيظة الأتراك، إلى درجة عدم التحدث باللغة العربية في الأماكن العامة ووسائل النقل مثلاً، ولكن يبدو أن الهروب من المشكلة أحياناً قد يكون مجلبة لمشكلات أخرى أمام إصرار عام وضخ دعائي فيه كثير من النزعة العنصرية بهدف التضييق الذي وصل إلى درجة الاستهداف المباشر كما حصل في مدينة قيصري في الأول من شهر تموز الجاري.
المسايرة الحكومية للرأي قد ضاعفت من معاناة اللاجئين باعتبارهم الطرف الأضعف الذي عليه أن يتحمل سخط الشارع التركي
وفي موازاة معاناة السوريين في الداخل التركي، ثمة معاناة أخرى لأكثر من أربعة ملايين سوري في مدن ومناطق اعزاز والباب وعفرين وجرابلس وأريافها، وهؤلاء لهم معاناتهم التي قد تختلف بواعثها عن معاناة أقرانهم داخل تركيا، ولكنها تلتقي معها من حيث الشعور بالقهر المزمن نتيجة تسلّط الفصائل العسكرية وأمراء الحرب، وكيانات سياسية وحكومة مؤقتة منبوذة بشخوصها لا تمثلهم ولا تنتمي إليهم وغير معنية بقضاياهم ومعاناتهم، بالإضافة إلى انتشار الفساد وندرة الأمان وشيوع البطالة، أضف إلى ذلك وجود مئات الآلاف من هؤلاء داخل مخيمات لا يتوفر فيها الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة.
حين يتعرّض هذا العزاء الداخلي إلى الاختراق، ويكون مهدَّداً بالنيل منه فإن الانفجار حاصلٌ لا محالة
مما لا شك فيه أن ثمة إحساساً كبيراً بالمعاناة بدأ يتجذر في نفوس السوريين سواء في داخل تركيا أو في مناطق نفوذها في الداخل السوري، ولكنْ كان ثمة كابح لأي انفجار شعبي عام يتمثل بإحساس معظم هؤلاء السوريين بأنهم ينتمون إلى ثورة، وأن ما يعانون منه هو بالنتيجة بسبب ثورتهم التي مايزالون يؤمنون بأهدافها وعدالتها، ولديهم إصرار كبير على تجسيد أهدافها المتمثلة بالتحرر من الطغيان الأسدي والعيش في بلد ينعمون فيه بالحرية والكرامة، ولكن حين يتعرّض هذا العزاء الداخلي إلى الاختراق، ويكون مهدَّداً بالنيل منه فإن الانفجار حاصلٌ لا محالة، ولعل هذا ما تجسّد في مدن الشمال السوري من خلال ردود فعل شعبية ربما فاجأت وقائعها الجميع وفي مقدمتهم الحكومة التركية ذاتها، وإذا كان من الصحيح أن أحداث مدينة قيصري قد قدحت شرارة ما جرى من أحداث، إلّا أن ردود الفعل الشعبية التي استنكرت اعتداءات قيصري على السوريين قد حملت رسائل عديدة إلى الحكومة التركية لعل أهمها:
1- يمكن للسوريين أن يتحملوا كثيرا من جور التضييق في المأكل والملبس وسبل العيش، ولعل لديهم قدرة هائلة على التصالح مع معاناتهم المعيشية بشتى تجلياتها، ولكنهم لن يغفروا ولن يسمحوا بتجاوز قضيتهم الأساسية المتمثلة بالإصرار على القطيعة مع نظام الأسد حتى زواله، ولعل نزوع أنقرة الأخير تجاه المصالحة مع نظام الأسد قد أحدث مزيداً من الارتياب في جميع نفوس السوريين، وكأن لسان حالهم يقول: لن نسمح لأحد أن يبيعنا للأسد، ولن نسمح لأحد المتاجرة بقضيتنا السورية العادلة.
2 – يمكن للحكومة التركية أن تكون شديدة التحكم بجميع المفاصل القيادية والكيانات الرسمية للمعارضة السورية: الائتلاف – الحكومة المؤقتة – هيئة التفاوض ولجنتها الدستورية – الفصائل والجيوش العسكرية، باعتبارها هي المشرفة والراعية لتلك الكيانات، ولكن لن يكون بمقدورها التحكم المماثل بباقي السوريين المنتفضين على نظام الأسد، فهؤلاء انتفضوا بوجه نظام الأسد الإجرامي رفضاً للإذلال والمهانة، ولا يُعقل أن يفرّطوا بما يمسّ كرامتهم ويضيع تضحياتهم الجسام.
3 – لعله من حق الحكومة التركية، كما هو حق لجميع الدول العمل من أجل أولويات بلدانها، ورسم سياساتها بما يتوافق ومصالحها وهذا ما يوجب على الأتراك احترام قرار السوريين بتحديد أولوياتهم أيضاً، وهذا يفضي إلى المطالبة بإقرار نوع من التعامل بين الطرفين أساسه الندية والمصالح المشتركة وليس التبعية المطلقة.
4-يجب أن يعلم الأتراك بأن السوريين ليسوا ممن ينسون الفضل، وقناعتهم راسخة بأن العلاقة مع الجارة تركيا استراتيجية بأبعادها الجغرافية والتاريخية والدينية، ولا يمكن للمتصيدين في الماء العكر من أسديين وقسديين وإرهابيين استغلال ما حصل لتخريب هذه العلاقة الأخوية.
ويجب الإشارة إلى أن ما اتخذته الحكومة التركية على أعقاب ما جرى من أحداث يأتي في سياقه الصحيح، بل ويمكن البناء عليه من خلال مثابرة الحكومة على تبنّي قوانين حازمة ورادعة بوجه جميع التجاوزات التي تطول السوريين نتيجة مواقف دعائية عنصرية، وعدم السماح للسلطة التنفيذية أن تتعامل مع السوريين وفقاً لمزاج الشرطي أو رجل الأمن أو الموظف، بل بموجب القوانين أولاً والامتثال للقيم والأخلاق الناظمة لرجل الدولة.
ولكن ثمة ما يؤكد أيضاً مطالبة السوريين للحكومة التركية باحترام معاناتهم وقضيتهم إنما تمتد لتكون مطالبةً للأتراك بحق السوريين في إنتاج قياداتهم وكياناتهم التي تنبثق من صفوفهم وليس من تصدرهم الدول، فهل تدرك تركيا أن كيانات المعارضة الرسمية السياسية والعسكرية والمدنية المصنعة والتي تعتبرها أنقرة ممثلة للسوريين، قد باتت هذه الكيانات جزءًا من مشكلة السوريين، بل إن استمرار هذه الكيانات تعني استمراراً لمعاناتهم بآن معا؟