وصل أيوب مع نهاية العام 2022 إلى برلين بعد رحلة طويلة امتدت لأشهر في غابات أوروبا الشرقية، وللوهلة الأولى انتابه شعور الأمان المفقود طيلة حياته كما يروي، وهو الشعور الذي لطالما افتقده في وطنه سوريا، لكن من سوء حظه عادت له كوابيس عاشها فترة اعتقاله لدى نظام الأسد.
يروي أيوب قصته لموقع "تلفزيون سوريا"، وهو الذي وصل مع موجة اللاجئين السوريين الجديدة من تركيا إلى أوروبا، وخصوصاً ألمانيا، يقول "كنت معتقلاً لدى فرع المنطقة في دمشق لنحو سنتين، وكان عمري وقتها 11 عاما فقط، وباع أهلي منزلهم في منطقة خلف الرازي ليدفعوا رشوة لأحد ضباط مطار المزة العسكري الذي تدخل للإفراج عني في العام 2019، ومطلع العام 2020 أخذ حاجز البرامكة بالقرب من إدارة الجمارك بطاقتي الشخصية لمراجعة فرع الأمن العسكري، فما كان من أهلي إلا أن دفعوا ما تبقى من ثمن المنزل لتهريبي إلى شمالي سوريا".
في برلين كان مركز استقبال اللاجئين الذي أقام فيه أيوب بمنزلة فندق خمس نجوم، يقول "على الرغم من ضعف الخدمات مقارنة بمراكز الاستقبال التي يتم توزيع أصحاب طلبات اللجوء عليها بعد فترة قصيرة، لكن كنت أغرق في النوم، وكأن تعب السنين كلها قد بدأ بالخروج من جسدي".
إلا أنه ما إن نقل أيوب إلى سكنه الجديد في حي Lichtenberg، والذي يقع مباشرة مقابل المبنى السابق لأمن الدولة في ألمانيا الشرقية، حتى عادت به الذاكرة إلى فرع المنطقة بدمشق حيث كان معتقلاً، بجدرانه المرتفعة والحواجز الحديدية والأسلاك الشائكة.
كان مبنى أمن الدولة في ألمانيا الشرقية يُعرف اختصاراً باسم "شتازي"، وتحول بعد انهيار جدار برلين والوحدة إلى متحف ونصب تذكاري، تم افتتاحه في العام 1994، ويضم أيضاً موقع السجن السياسي الرئيسي لوزارة أمن الدولة الشيوعية الألمانية الشرقية السابقة "شتازي"، ولأنه تحول إلى متحف فقد أبقوا على الجدران المرتفعة والأسلاك الشائكة والباب الحديدي المرتفع.
الإرث النازي لدى نظام الأسد
يجلس أيوب كل صباح على نافذة غرفته ويستعيد آلامه في المعتقل، حتى إن بعض الكوابيس عادت لتعكر نومه وكأنه في المعتقل الأسدي من جديد، ولعل ما زاد الطين بلة فضوله الذي دفعه إلى زيارة هذا المتحف ومشاهدته لأدوات التعذيب وصور المعتقلين التي نكأت جرحاً عميقا وغائراً في ذاكرته.
ولعل التقارب بين أدوات التعذيب التي كانت متّبعة في ألمانيا الشرقية ونظام الأسد تعود بجزء منها إلى فرار بعض رموز النازية قبل وصولهم لمحاكم نورنبيرغ، وانتشارهم في أصقاع الأرض، ومنهم من وصل إلى البلدان العربية، مثل الضابط أليوس بورنير، وهو عسكري نمساوي كبير من مواليد العام 1912، وعمل مع حكومة ألمانيا النازية منذ العام 1932 حتى العام 1945، وتوفي في سوريا في العام 2010، عن عمر تجاوز الثامنة والتسعين.
وإذا كان من الصعب أن نعرف إلى أي مدى رأى برونر أن إرث تكتيكاته الوحشية يؤتي ثماره، لكن لا شك في أن محققين نظام الأسد، دون أن يعرفوا من هو بورنير، يطبّقون بعض الأساليب التي ابتدعها بورنير ومن كان معه نفسها ضد السوريين، والتي طورها نظام الأسد ولم يقف عند الأدوات التي استخدمها النازيون خلال فترة حكمهم.
ندبات نفسية واجتماعية
حالة أيوب ليست فريدة في المقتلة السورية، رغم تداعياتها الخطيرة إلا أن الكثير من السوريين يعانون مما هو أكثر قسوة، نتيجة فترات التعذيب الجسدي والمعنوي داخل معتقلات الأسد، والتي تشمل التعذيب والإذلال وتكديس الموقوفين في ظروف مروّعة.
وأكدت منظمات حقوقية دولية في عدة تقارير سابقة ذلك، حيث قدّرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها، أن عدد المعتقلين السوريين في سجون النظام تجاوز 220 ألفاً.
تعليقاً على حالة أيوب، قال الدكتور ثائر عز الدين، الذي يعمل في منظمة "Traumaambulanz Berlin im Zentrum für Psychotherapie"، المعنية بتقديم الرعاية النفسية وتأهيل ضحايا التعذيب، إن "عملنا الأساسي يرتكز على تقديم وصفات علاجية تشمل توجيهات ونصائح أكثر من الاعتماد على الأدوية والعقاقير التي يتم الاعتماد عليها أحياناً في حالات التأذّي الشديد للمريض".
وأضاف الدكتور عز الدين، في حديثه مع موقع "تلفزيون سوريا"، أن "أغلب الضحايا من السوريين تتملكهم مشاعر الخوف والإحساس بالظلم الدائم وتوقع الأذى من الآخرين، وهذا يدفعهم لعدم البوح بما عاشوه من تعذيب، وبالتالي يصعّب علينا مهمتنا، لذلك فترات العلاج تحتاج إلى تضافر جهودنا مع جهود المجتمع من أصدقاء الضحية وعائلته إن كانت برفقته".
وأشار الدكتور عز الدين إلى أن "حالة أيوب سهلة مقارنة بالضحايا الذين قبعوا لفترات اعتقال طويلة، وتعرضوا للتعذيب بأشكال مختلفة، وهو ما انعكس سلباً نفسياً واجتماعياً وأسرياً وعملياً على السجين وأسرته، وخلّف ندبات نفسية ربما تبقى مدى الحياة بدرجات متفاوتة، وربما تدوم تأثيراتها على صحة ونفسية وسلوك الضحايا، وربما ينتج عنها أمراض نفسية من بينها القلق المستمر والاكتئاب الشديد والانعزال عن المحيط".
ربما يكون أيوب من المحظوظين، حيث كتب له حياة جديدة بمجرد خروجه من معتقلات الأسد، إلا أن نحو نصف مليون سوري ما زالوا في عداد المفقودين، ومصيرهم مجهول في غياهب أقبية أجهزة مخابرات النظام السوري.