هناك إجماع في تركيا على أن هذه الانتخابات هي الأهم في تاريخ الجمهورية التي تحتفل هذا العام بمئويتها الأولى، الصحافة الغربية بدورها وصفت الانتخابات بأنها أهم حدث سياسي عالمي لهذا العام. وتأتي أهمية هذه الانتخابات لعوامل داخلية وخارجية.
في الشأن الداخلي لطالما كان أي حدث انتخابي مثار جدل داخلي طويل بسب الاستقطاب السياسي الحاد والذي يمكن قياسه بالنظر لنسبة المشاركين في الانتخابات ممن يحق لهم التصويت، فالشعب التركي يعتبر من أكثر شعوب العالم مشاركة في الاستحقاقات الانتخابية بنسبة تصل إلى 88٪ في إحدى الانتخابات ومن المتوقع أن تتجاوز حاجز ال90٪ في الانتخابات القادمة.
تركيا تغيرت كثيراً وباتت أقوى، فكل الأرقام والإحصاءات تشير إلى ما يشبه انقلاباً حصل في تركيا بعد تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة مطلع الألفية الحالية
ويأتي الاهتمام الدولي والإقليمي بنتيجة الانتخابات التركية لعاملين أساسيين الأول هو دور تركيا في ظل التحالفات القديمة منها والجديدة، فتركيا رغم أنها عضو فاعل في الناتو لكنها استطاعت أن تعزز علاقاتها شرقاً وتحديداً مع روسيا، خصوصا بعد التدخل الروسي في سوريا والذي جاء ضد مصالح تركيا وبعد أزمة إسقاط الطائرة الروسية والتي كادت أن تشعل مواجهة بين الطرفين، قبل أن تجد الدولتان مساراً مشتركاً في سوريا وشكلوا ما يمكن أن نسميه تحالف "الأعدقاء" الذي أسس لأرضية مشتركة للعمل بدأت منذ 2016 ومستمرة حتى اليوم، ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا والذي كان بمثابة هدية لتركيا لأنها صارت الوسيط السياسي والاقتصادي المعتمد بين روسيا والغرب.
والثاني هو أن تركيا تغيرت كثيراً وباتت أقوى، فكل الأرقام والإحصاءات تشير إلى ما يشبه انقلاباً حصل في تركيا بعد تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة مطلع الألفية الحالية، بدءاً من التخلص من الديون التي أثقلت كاهل المواطن التركي والحكومة معاً، وصولا إلى معدلات نمو مرتفعة وارتفاع كبير وغير مسبوق بأرقام الصادرات التركية. ولعل أهم نقاط القوة الحالية لتركيا هي وجود قوات لها في سوريا وليبيا وأذربيجان وقاعدة في قطر، هذا الانتشار العسكري عزز من مكانة تركيا وباتت لاعباً رئيسياً في الكثير من الملفات. ويأتي ملف التصنيع العسكري هو الأخر ليؤكد على حضور تركيا المتصاعد وباتت المسيرات التركية عاملاً مؤثراً في كثير من المناطق الساخنة من أوكرانيا إلى أفريقيا مرورا بسوريا والعراق.
بالعودة لسؤال المادة عمن سيفوز في الانتخابات كتبت هذه المقدمة لأجل الإضاءة على جانب لا يتم إيلاؤه أهمية يستحقها حين الحديث عن الناخب التركي وخياراته، ولمن سيعطي صوته في يوم الحسم، وهو ما يمكن تسميته بعامل المكانة، مكانة تركيا وسط الإقليم والعالم، وأذكر هنا كمثال كيف تفاعل صحفيون وشخصيات عامة محسوبة على المعارضة بعد أن حققت البيرقدار حضوراً في الحرب الأوكرانية الروسية وشهرة عالمية واسعة، أحد الصحفيين قال صار الناس يحترموننا حين يعرفون أننا من تركيا.
صحيح أن الأزمة الاقتصادية ترخي بظلالها بعد أن وصل التضخم إلى أرقام ضخمة وبعد جنون الأسعار الذي أصاب المواد الغذائية والعقارات، لكن للناخب التركي اعتبارات أخرى أهم برأيي. ويأتي العامل الأيديولوجي الهوياتي في مقدمة خيارات الناخب في تركيا، نظرا لطبيعة الصراعات داخل المجتمع التركي منذ أن تم إعلان الجمهورية وحتى اليوم، صراع اتخذ عدة أشكال لكنه في جوهره صراع بين تيارين واحد محافظ - إسلامي والآخر علماني - غربي، ومن متابعة خطابات الرئيس التركي ومنافسه رئيس حزب الشعب الجمهوري في آخر أسبوعين يمكن أن نستشف أوجه هذا الصراع بكل وضوح.
السباق الانتخابي يخوضه تحالفان الأول يقوده حزب العدالة والتنمية والثاني يقوده حزب الشعب الجمهوري، تحالف حزب العدالة متماسك وقوي، فيما تحالف حزب الشعب الجمهوري هش ويحمل بذرو تفتته في أي لحظة. وإذا بحثنا عن نقاط قوة التحالف الأول سنجد أن ضعف المعارضة يأتي في المقدمة، لأن شركاء طاولة المعارضة لا يجمعهم شيء سوى خصومة الرئيس أردوغان، فيما التباينات كبيرة بين رؤية كل طرف لمعظم الملفات الحساسة، في وقت يبدو الانسجام كبيرا بين حزب العدالة وشريكه الأكبر حزب الحركة القومية.
ولأن العامل الأيديولوجي الهوياتي يأتي في مقدمة خيارات الناخب التركي أتوقع أن تصوت كتلة وازنة من ناخبي أحزاب طاولة المعارضة المحافظين والقوميين للرئيس أردوغان، فيما يمكن أن تذهب أصواتهم البرلمانية لأحزابهم، ويعزز هذا الافتراض تصريحات خرجت من داوود أوغلو وعلي باباجان المنتمين للتيار المحافظ، حين أشاروا إلى صعوبة إقناع الناخب المحافظ بالتصويت لحليفهم كمال كيلجدار أوغلو، وأيضا خرجت عدة بيانات من كتل وازنة داخل المللي غوروش، وهو تيار الرؤية الوطنية الذي أسسه نجم الدين أربكان في السبعينات ويعتبر هذا التيار أو الحركة بمثابة الأب الروحي لكل الأحزاب والجماعات الإسلامية التركية بما فيها تلك الموجودة في التحالفين، دعم فيها أصحابها صراحة تحالف حزب العدالة في مواجهة تحالف سباعي يقوده حزب الشعب.
وفي نظرة سريعة لنتائج الانتخابات في آخر عشرين سنة نجد أن للحزبين الرئيسيين كتلة صلبة ثابتة تصوت له بشكل مستمر وأعتقد أن السباق الحالي هو لكسب ود كتلتين واحدة تمثل الشباب حيث إن هناك ستة ملايين ناخب سيصوت لأول مرة، والكتلة الثانية يمكن تسميتها كتلة المترددين والذين لا يحسمون أمرهم عادة سوى في آخر لحظة.
للناخب التركي ذاكرة سوداء تخص كل ما يتعلق بالحكومات الائتلافية لأنها كانت معطلة للحياة السياسية وفاشلة اقتصاديا وتنموياً، وكانت سبباً لتدخل العسكر في شؤون الحكم
وبناءً على ما سبق وفي حال لم تحدث مفاجأة مثل أن ينسحب محرم إنجة من السباق لصالح كيلجدار أوغلو أتوقع أن يُحسم السباق نحو قصر الرئاسة من الجولة الأولى لصالح الرئيس التركي بحدود 53٪ في حين أتوقع أن تكون الأغلبية (أكثر من ٥٠٪) في البرلمان لصالح المعارضة إذا حسبنا نتيجة تحالف الطاولة مع حزب محرم إنجة.
بالإضافة لكل ما ذكر سابقا هناك عامل مهم آخر لم يتم تسليط الضوء عليه كثيرا، وهو أن للناخب التركي ذاكرة سوداء تخص كل ما يتعلق بالحكومات الائتلافية لأنها كانت معطلة للحياة السياسية وفاشلة اقتصاديا وتنموياً، وكانت سبباً لتدخل العسكر في شؤون الحكم، وتحالف المعارضة قدم للناخب رئيس تقوده سبعة أحزاب مع وعود بعودة النظام البرلماني أي حكومة ائتلافية!
الناخب يعاني من جراء الأزمة الاقتصادية لكنه يفضل أن تقوم الحكومة الحالية بحل تلك المشكلات بدلاً من المغامرة والرهان على طاولة يقودها سبعة زعماء.
هناك صورتان للزعيم أمام المواطن التركي وعليه أن يصوت لواحدة، صورة زعيم يحمل بيده قلماً واحداً يوقع به على المسيرات قبل أن يصعد في سيارة كهربائية تركية، مقابل زعيم يبدو وكأنه يساري نسي أن يستيقظ حين يتحدث عن البصل ويحمل في يده سبعة أقلام.