icon
التغطية الحية

من سيرة معتقل سابق | ذاكرة

2024.06.23 | 22:42 دمشق

آخر تحديث: 23.06.2024 | 22:42 دمشق

67568586
+A
حجم الخط
-A

عدت من أمريكا إلى سوريا يوم 26 تموز 1995 بعد حصولي على المؤهِّل العلمي الذي أوفدتني لأجله جامعة تشرين. وفي اليوم التالي، 27 تموز، عاد صديقي وهيب (وهذا ليس اسمه الحقيقي) من فرنسا إلى سوريا أيضًا بعد حصوله على المؤهِّل الذي أوفدته لأجله هيئة الطاقة الذرية.

نزلتُ من الطائرة، وكان في استقبالي في مطار دمشق أخي وابن عمي، رحمه الله، كما استقبلني أستاذي سابقاً في جامعة حلب والدكتور نبيل ميّا، رحمه الله أيضًا. أما صديقي فقد عاد ولم يُبْلِغ أهله بمجيئه (إذ لم يكن ببيتهم هاتف). وقبل أن ينزل أحدٌ من ركاب الطائرة، صعد إليها عناصر من المخابرات العسكرية واقتادوا صديقي إلى سيارة مُفَيَّمة النوافذ كانت تنتظره في أرض المطار. وهناك عصبوا عينيه واقتادوه إلى فرع فلسطين الرهيب. ثم أُودِع زنزانةً منفردةً مظلمةً عرضها 70 سم، وطولها 170 سم، وارتفاعها 170 سم (شبَّهها لي بالقبر الذي دُفِن فيه والده، رحمه الله، بعد أقل من سنتين من إطلاق سراحه). لم يُعذَّب وهيب تعذيبًا جسديًا ولم يُسأل سؤالاً واحداً، وأُطلِق سراحُه بعد سبعة أشهر وأربعة عشر يومًا بالضبط، من دون أن يقدَّم للمحاكمة. لكنه خرجَ كالمجنون.

حين اعتُقل وهيب، لم يكن صديقي، بل لم أكن أعرفه حينها. إنَّما تعرفت إليه بعد أشهر من إطلاق سراحه، حين التحق كلانا بالخدمة العسكرية الإجبارية. وقد تنقلَّنا معًا من مدرسة الخدمات الطبية بحرستا إلى الكلية الحربية بحمص ثم إلى وجهتنا النهائية، أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية بحلب. في حلب توطدت معرفتنا وتمتَّنت صداقتنا. وكان يزورني في بيتي بحلب، وأحيانًا يبيت عندي. ومرةً دعاني إلى زيارة أهله بريف طرطوس، وقد فعلتُ في صيف 1997 (وكنا ما زلنا في الخدمة العسكرية). وكم تأثرتُ حين قبَّلتني أمه، وهي تراني لأول مرة، كما قبَّلت ابنها وبدفء الأمومة نفسه.

 كان سبب اعتقاله أنه حين كان طالبًا في فرنسا قد أرسل إلى محمود الزعبي، رئيس الوزراء آنذاك، رسالةً يقول له فيها: "بالأمس أنفقتم على شخص تافه [يقصد رئيس اتحاد طلبة سوريا] خلال أسبوع في فرنسا ما يكفي لإعاشة جميع الطلاب السوريين الدارسين على نفقة الحكومة لمدة عام. وأنتم منذ سنوات لم تدفعوا لنا أقساط الجامعة وحرمتمونا رواتبنا!" وحين صدر قرار من محكمة أمن الدولة لاحقاً بفصله من عمله في هيئة الطاقة الذرية كان أحد أسباب الفصل هو "المساس بهيبة الدولة!" ومن المفارقات العجيبة أنه بعد سنوات قليلة جدًا، فُصِل محمود الزعبي نفسه من القيادة القُطْرية لحزب البعث بسبب التهمة نفسها: المساس بهيبة الدولة! ثم انتحر الزعبي بعدها بأيام بثلاث رصاصات في الرأس، كما قيل!

***

ومما روى لي وهيب أنه في أثناء اعتقاله كان السجَّان يأتيه بالماء والطعام البائس في الإناء نفسه الذي يتبوَّل ويتغوَّط فيه! لا عجب أنه كان يتصرف كالمجنون بعد هذه التجربة المُذِلَّة. وأظن أنه كان يلوذ من آثار هذه التجربة النفسية المؤلمة بالقراءة النهِمة باللغتين العربية والفرنسية، وإلى حد ما بالإنجليزية. كان مرفوعًا عنه القلم في أكاديمية الأسد. إذ كان يشتم حزب البعث وكل مسؤولي الدولة، كبارًا وصغارًا، جهارًا نهارًا، ما عدا حافظ الأسد. ولم يكن أحدٌ يؤاخذه. بل لكثرة ما سئموا وجوده، لم يعد مطلوبًا منه أن يُدرِّس مادة الفيزياء للطلاب الضباط. وكان من آرائه الجريئة أن رفعت الأسد هو من أمر بقتل الدكتور محمد الفاضل (1919-1977)، أستاذ القانون الجنائي بجامعة دمشق ورئيسها السابق، وليس جماعة الإخوان المسلمين. وصديقي يقول إن سبب اغتيال الفاضل هو تصريحه لأحدهم بأن الدستور الذي وضعه حافظ الأسد بعد استيلائه على السلطة متناقض، حيث تُبطِل كلُّ مادةٍ المادةَ التي قبلها. وبما أن محمد الفاضل علوي، فقد ألصق نظام الأسد التهمة بجماعة الإخوان المسلمين لتأجيج الصراع الطائفي، وجعل العلويين يلتفون حول حافظ الأسد الذي كانت جماعة الإخوان المسلمين، ولا سيما جناحها العسكري (الطليعة المقاتلة)، تخوض ضده حربًا طائفيةً لا خلافَ عليها (في سياق مشابه، يقول الأكاديمي القيادي البعثي السابق د. عبد العزيز ديوب إن رفعت الأسد هو من أمر بقتل رئيس شعبة المخابرات العسكرية بحماه الرائد محمد غُرَّة لإحداث فتنة طائفية ولتسويغ المجزرة المخطط لها بحق أهل حماة).

وبما أن وهيب درس كل المراحل الجامعية في فرنسا من الإجازة إلى الدكتوراه، وليس لديه خدمة معسكرات جامعية، فكان من المفترض أن يخدم سنتين ونصف في الجيش بدلاً من سنتين. لكن ذهنه تفتَّق عن خاطرٍ عبقريٍ: أن يكتب رسالةً إلى حافظ الأسد يشرح له فيها أنه اعتُقِل وأُطلِق سراحُه، ولم يُتَّهم رسميًا ولم يُقدَّم إلى محاكمة. وطلب في رسالته، التي أطلعني عليها قبل إرسالها، أن تُضَمَّ مدة سجنه إلى خدمته العسكرية. وبعد أشهرٍ حين حان وقت تسريحنا نحن الضباط المجندَّين الآخرين، صدر أمرٌ غريبٌ عن هيئة شؤون الضباط بخصوص صاحبنا وهيب. إذ تركت الهيئةُ أمرَ تسريحه إلى مدير الأكاديمية: إما أن يُسرِّحه مع بقية الضباط المجندين، وإما أن يحتفظ به لستة أشهر أخرى. فسرَّحه مدير الأكاديمية معنا!

وقبل تسريحنا بأسبوعين أو ثلاثة، تخاصمتُ أنا وهو على أمر يراه هو تافهًا وأراه أنا مهمًا. وتسرحنا ولم يكن أحدنا يكلم الآخر. وبعد أشهرٍ فوجئت به يقف أمام القاعة التي كنت أعطي فيها محاضرة لطلبة دبلوم الترجمة في جامعة تشرين. جاء صاحبي من ريف طرطوس إلى اللاذقية يبحث عني. كان لقاءً مؤثرًا، وتعانقنا وكادت دموعنا تنهمر لولا الحياء من الطلبة. بات تلك الليلة عندي، واستعدنا ذكريات الأكاديمية، وصارت ذكرياتنا المُرة فيها حلوةً. أطلعني على قرار فصله من هيئة الطاقة الذرية، وعلى قرار منعه من السفر. وكان شوقه إلى زوجته الفرنسية يزداد بعد كل هذا الانفصال الذي دام أكثر من ثلاث سنوات.

***

وبعد أشهر سافرتُ إلى الأردن، وقضيت فيه ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى السعودية. وفي صيف 2017 كُنت أُعِدُّ مجموعتي القصصية «التاريخ السري لكلبنا نمُّور» للنشر. وفي إحدى الليالي فوجئت بأن وهيب قد بعث إليَّ رسالة بالمِسِنجَر. كان قد مضى على آخر لقاءٍ وتواصلٍ بيننا 18 عامًا. وكنت قد كتبت قصة بعنوان "المفعولُ بهم" استوحيتُها من تجربتنا البائسة في أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية ومن تجربته المؤلمة في المعتقل. وقد جعلتُه في القصة مدرسًا في كلية الطب البيطري (التي لا علاقة لها بتخصصه في الفيزياء الإشعاعية) لأبين كيف أن النظام، الذي لا يهمُّه إلا الولاء الأعمى من مواطنيه، يهدر مؤهلاتهم وكفاءاتهم من أجل كلمةِ حقٍّ قيلت في لحظة غضب. ولما أخبرته عن القصة، قال: "وضعي سيء لا يوصَف في كتابٍ!" أخبرني أيضًا أن زوجته الفرنسية طلَّقته، وأنه عاطل عن العمل، وأنه حاليًا يعمل فلاحًا في قطعة الأرض التي يملكها هو وإخوته، وأن ما يزرعون فيها ليس بغرض الربح المادي، إنما ليقتاتوا – نعم، ليقتاتوا كالأقوام البدائيين – على ما يزرعون من فجل وبصل وسِلْق وجرجير!

وبعد أيامٍ، قرأتُ لصاحبي، السجين السياسي وداعية حقوق الإنسان السابق، منشورًا على صفحته في الفيسبوك يدعو فيها جيش الأسد إلى اجتثاث "الإرهاب" من أرض الوطن! تركتُ قصة "المفعول بهم" كما هي، ولم أغيِّر فيها شيئًا سوى أنني وضعتُ لها تصديرًا شرحتُ فيه قصة اعتقال صاحبي، بطل القصة الحقيقي، وأنه الآن صار بوقًا ناطقًا باسم النظام الذي أذاقه الذُّلَّ والهوانَ. الأدهى من ذلك هو أنني حين أعدت قراءة القصة وجدتُ فيها ما يشي بقابلية صاحبي للانقلاب على مواقفه السابقة.