تم تهريب جوزفين تاواجينغ إلى المطار في سيارة مغلقة، حيث ظلت تتوسل إلى خاطفيها حتى يتم إخراجها من الصندوق الذي وضعوها فيه. فقد سافرت من بلدها، الفلبين، قبل شهر من وقوع كل ذلك لتجد عملاً في دبي، التي تعتبر مركزاً مزدهراً للأعمال والمشاريع التجارية في الشرق الأوسط، حسبما روت لنا لاحقاً.
إلا أن شركة التوظيف بدلاً من أن تجد لها عملاً، حبستها في مهجع مظلم وقذر مع عدد من النساء الأخريات، ثم علمن بأنهن سيرسلن إلى سوريا التي دمرتها الحرب حيث سيتم بيعهن هناك.
وخلال الرحلة التي نقلت جوزفين ابنة 33 عاماً إلى مطار دبي حتى يتم ترحيلها إلى دمشق، احتجت على ذلك للمرة الأخيرة، فتلقت صفعة على وجهها جزاء لذلك، حيث تصف ما جرى معها في مقابلة حكت خلالها محنتها التي تعرضت لها في عام 2019 وذلك عندما قالت: "لقد استشاطوا غضباً مني وقالوا: إن لم تذهبي فسنقتلك!"، وماتزال هذه المرأة متواجدة في سوريا حتى اليوم.
لقد تعرضت عشرات الفلبينيات اللواتي تم جلبهن للعمل في الإمارات لعمليات اتجار بالبشر، تم بموجبها تهريبهن إلى سوريا للعمل كخادمات، حيث تعرضن في بعض الأحيان لعنف جسدي وجنسي من قبل أصحاب العمل، كما حرمن من رواتبهن التي وعدن بتقاضيها، وذلك بحسب ما ورد في المقابلات التي أجريت مع 17 امرأة منهن عبر تطبيق فيسبوك ماسنجر.
لجوء إلى السفارة
إذ يتم حبس الفلبينيات في معظم الأحيان داخل دور أصحاب العمل، ومن تمكنت منهن من الهرب واللجوء إلى السفارة الفلبينية في دمشق، ذكرت بأن حوالي 35 امرأة تبحث عن مأوى لها اليوم، دون أن تستطيع العودة إلى بلدها.
وعن تجربتها تخبرنا فلورديليزا أريجولا، 32 عاماً، والتي تعيش في سوريا منذ عام 2018، فتقول: "لقد صفعني رب العمل وضرب رأسي بالجدار، ثم هربت لأنه لم يعطني راتبي طيلة تسعة أشهر، حيث انتظرته حتى نام، فتسلقت الجدار، وكان لدي بعض المال لأستأجر سيارة تقلني إلى السفارة".
يذكر أن الملايين من المهاجرين من دول عديدة يعيشون في دول الخليج ومنها الإمارات، حيث يعمل كثير منهم في قطاعات مثل البناء والاستقبال، وكخدم في البيوت. إذ ترفد تلك العمالة الرخيصة اقتصاد تلك المنطقة العربية، في الوقت الذي تعتبر فيه الحوالات المالية التي يرسلونها إلى عائلاتهم في الوطن مصدر دخل أساسي.
وعليه، فإن سوريا، بعد عقد من الحرب فيها تقريباً، لم تعد وجهة مرغوبة بالنسبة لهجرة العمالة، غير أن العائلات السورية الثرية مستعدة لدفع آلاف الدولارات حتى تحصل على خادمة، وهذا ما زاد الطلب على تهريب تلك المهاجرات.
ولدى سؤاله عن تهريب الفلبينيات إلى سوريا، رد باول رايمند القنصل العام للفلبين في دبي قائلاً: "بالتأكيد تقلقنا هذه البلية كثيراً"، ولهذا ذكر بأنه يتعين على العاملات المهاجرات أن ينسقن ويرتبن أمور توظيفهن خارج البلاد مع الوكالات الحكومية الفلبينية، وأن يطلبن المساعدة منها في حال: "تم استدارجهن للعمل خارج الإمارات"
سمة دخول سياحية منتهية الصلاحية
ذكرت الفلبينيات في مقابلات أجريت معهن بأنهن وصلن إلى الشرق الأوسط بموجب سمة دخول سياحية مدتها 30 يوماً وذلك داخل دولة الإمارات، التي توقعن أنها ستكون وجهتهن الأخيرة. إلا أن وكالات التوظيف حبستهن إلى أن انتهت صلاحية سمة الدخول التي يحملنها، الأمر الذي جعل من مسألة التوظيف في الإمارات أمراً مستحيلاً.
وتعقب فلورديليزا على ذلك بالقول: "كان مقر الإقامة قذراً، حيث تعيش أكثر من 20 امرأة في غرفتي. كنا ننام على الأرض، وقد قاموا بمصادرة هواتفنا".
وأثناء فترة احتجازهن، يبدأ العاملون في تلك الوكالة بإخبارهن مراراً وتكراراً بأن سوريا مكان رائع للعيش، وبأن الحرب انتهت هناك، وبأن بوسعهن أن يطلبن رواتب عالية، مع المطالبة بيوم عطلة واحد في الأسبوع. وفي الوقت ذاته، ذكرت تلك النسوة بأنهن تعرضن بشكل متكرر للإساءة والتهديد، لاسيما في حال معارضتهن للذهاب إلى سوريا.
وقد ذكرت ست من تلك النسوة اللواتي أجريت معهن مقابلات اسم وكالتي توظيف في الإمارات لعبتا دوراً في تهريبهن وبيعهن. إلا أن صحيفة واشنطن بوست لم تتحقق من صحة تلك المزاعم بصورة مستقلة، بما أن هاتين الوكالتين لم تردا على الكثير من الطلبات التي أرسلت لهما لتعلقا على هذا الموضوع.
هذا وقد بدأ البحث حول هذه القضية بعدما شاهد أحد المراسلين في الصحيفة مقطع فيديو على الفيسبوك تظهر فيه أكثر من 15 فلبينية وهي تطلب المساعدة داخل السفارة في دمشق، كما تم التعرف على هوية البعض منهن عبر فيسبوك، وهكذا تم التواصل معهن وأجريت تلك المقابلات على هذا الأساس.
إذ بعد احتجازهن في الإمارات، يتم نقل النساء بالطائرة إلى دمشق ضمن مجموعات مؤلفة من امرأتين أو ثلاث نساء. ولدى وصولهن، يتم احتجازهن في مساكن جماعية يمتلكها سماسرة محليون إلى أن يتم نقلهن إلى بيت حيث يجبرن على انتظار دورهن مع الزبائن المحتملين.
وتقول إحدى النسوة وهي جدة تبلغ من العمر 48 عاماً، وقد تحدثت إلينا شريطة عدم الكشف عن اسمها لأنها تشعر بالعار: "أحسست وكأني عاهرة لأننا كنا ننتظر في طابور على الدور، ولأن أصحاب العمل كانوا يختارون التي يريدونها من بيننا".
أما سعر البيع فقد كان يتراوح ما بين 8 إلى 10 آلاف دولار أميركي بحسب ما أوردته العديد من تلك النسوة اللواتي ذكرن بأن أصحاب العمل صرحن لهن عن سعر شرائهن. أما النساء اللواتي لم يتم بيعهن بسرعة فقد تعرضن لعنف متزايد من قبل السماسرة السوريين.
إذ ذكرت جويماليان داي، وهي فتاة في السادسة والعشرين من عمرها بأنهم: "أخبروني أن أتصرف بكياسة حتى لا أتعرض للاغتصاب أو الإيذاء. فالتزمت الصمت، وصرت أقول لهم نعم دائماً"، وتخبرنا بأن مدير الوكالة: "كان يريد أن ينام بجانبي وأن يلمسني، إلا أن صاحب العمل أخذني في اليوم التالي لحسن حظي".
"أخشى أن أهرب"
وبمجرد أن تصبح تلك النسوة خلف أبواب موصدة في بيوتهن الجديدة، يصبحن عرضة لعنف جسدي وجنسي من قبل رب العمل. إذ ذكرت جيرالدين باهيجيون، وهي امرأة في الثلاثين من العمر، بأنها تعرضت للاعتداء المتكرر من قبل رب العمل، حيث قالت: "لقد صفعني وركلني وضربني مرات كثيرة، فتحملت كل ذلك طيلة أربعة أشهر".
كما ذكرت أنها لم تحصل على راتبها مقابل العمل الذي تقوم به، لتكرر بذلك الشكوى التي ذكرتها غيرها من النساء اللواتي أعلن بأن الوعود التي تلقينها بخصوص الرواتب من قبل وكالات التوظيف الإماراتية، والتي تعادل 500 دولار شهرياً، لم تتحقق على الإطلاق.
وقد وصفت امرأة أخرى تم نقلها إلى سوريا أيضاً قبل عام بأن يوم العمل الذي يمتد لـ18 ساعة يبدأ عن الساعة الخامسة فجراً، ولا يوجد أي يوم عطلة. كما ذكرت بأن رب عملها كان من عائلة سورية معروفة، ويقطن في بيت يحرسه عناصر يقفون عند بوابته الخارجية.
فيما أوردت شابة في الثانية والثلاثين من العمر والتي لم تذكر اسمها حفاظاً على سلامتها: "أخشى أن أهرب، بالرغم من أني أريد العودة إلى وطني، لكني لست أدري كيف بوسعي أن أفعل ذلك".
هذا وقد تعرفت أربع من النساء على وكالة السمسرة والوساطة في دمشق التي قامت ببيعهن، والتي تحمل اسم: نبلاء الشام.
وبعد التواصل مع تلك الشركة عبر الواتساب، ذكر محاميها، السيد رمضان محمد بأن حسابات النساء "قطعاً وهمية"، كما ذكر بأن النساء: "وافقن على القدوم للعمل في سوريا، وبأن ذلك موثق بالفيديو بالصوت والصورة حيث يقوم المكتب الذي يقوم بإرسالهن بتجهيز ذلك الفيديو قبل سفرهن، أما نحن فنقوم بدورنا المتمثل بتأمين الممولين، والبيوت، والأشخاص الذين يعاملونهن بشكل جيد للغاية وبطريقة إنسانية. ثم إننا نتحقق من وضعهن ونطمئن عليهن وعلى أنهن يتقاضين أجورهن كاملة غير منقوصة بصورة دورية، كما نستفسر عن تواصلهن مع عائلاتهن عبر الإنترنت".
وأضاف السيد رمضان بأن الوكالة تساعد أي عاملة ترفع أي شكوى وبأن الوكالة لم تتلق أي شكوى من ذلك الصنف من الشكاوى التي رفعتها تلك النسوة وعبرت عنها في المقابلات التي أجرتها معهن صحيفة واشنطن بوست.
رب العمل كان يعرف أنها لم تتجاوز الثانية عشرة من العمر
ذكرت ليلانيز عبد الجابر بأنها كانت في الثانية عشرة عندما تم الاتجار بها قبل ثلاث سنوات، إذ تقول: "عندما كنت عائدة إلى البيت من المدرسة، فكرت بطرق لتجاوز معاناتنا مع الفقر، وبالبنات اللواتي سافرن خارج البلاد وأصبحن ينعمن بحياة جيدة، وبأقارب تلك الفتيات اللواتي أصبح بوسعهم بناء بيت جديد، فشعرت بالشفقة لحال أسرتي، ولهذا قررت مساعدتها".
وهكذا وجدت ليلانيز من مدينة كوتاباتو في جنوب الفلبين وكالة توظيف أخبرتها بأنها سترتب أمور استصدار جواز سفر لها بعد تزوير عمرها لتصبح الأمور قانونية، وذلك حتى تجد عملاً لها في دبي، ولكن عوضاً عن ذلك تم نقلها إلى سوريا.
وتذكر أنها في البداية عملت بجد لدى رب عملها في دمشق، والذي كان يعرف بأنها لم تتجاوز الثانية عشرة. ولكن عندما تلقت ليلانيز بعد مرور عدة أشهر نبأ وفاة شقيقها في بلدها، انتابها حزن شديد، أثر على أدائها لعملها.
وعقاباً لها على ذلك، قام رب العمل بصفعها، وحرمها من الطعام، وعندما توسلت إليه أن يسمح لها أن تعود إلى بلدها لترى أسرتها، أوصلها إلى السفارة الفلبينية، حيث توقع أنهم سيقومون بإعادتها إلى الوطن، إلا أن السفارة لم تقم بذلك. واليوم بعدما أصبحت هذه الفتاة في الخامسة عشرة من عمرها، تخبرنا بأنها أقامت في السفارة طيلة السنة والأشهر الثمانية الماضية.
ولا تدري ليلانيز متى سيحين موعد سفرها إلى بلدها، بل إن الموظفين في السفارة سألوها إن كانت ترغب بأن تعود لعملها بدلاً من أن تعود لأهلها، وعن ذلك تقول: "أحس وكأني سجينة هنا، إذ أرغب بالعودة إلى بلدي، فأنا مشتاقة لأمي وأبي".
محتجزات في السفارة
بمجرد أن لاحت الفرصة، اختارت الكثير من النسوة الهرب من بيوت أصحاب العمل واللجوء إلى السفارة الفلبينية، إلا أنهن لم يحظين بالترحيب الذي تمنينه في ذلك الملاذ الآمن.
ثم إن بعض موظفي السفارة صارمون، حسبما ذكرت تلك النسوة، إذ ثمة عقاب شائع للمخالفات الصغيرة مثل سرقة المزيد من الطعام من المطبخ، وهو الحرمان من وجبة الإفطار لمدة أسبوعين. كما أن الغرف التي تشبه المهاجع باردة في الشتاء، وفيها تحبس النساء كل ليلة.
ولمنع أي منهن من نقل شكواها لأسرتها حول ظروف العيش في السفارة، فقد تمت مصادرة هواتف النساء، إذ تقول السيدة البالغة من العمر 48 عاماً: "لم نتمكن من التواصل مع عائلاتنا طيلة خمسة أشهر تقريباً، وذلك لأن السفير أخذ هواتفنا منا فبتنا وكأننا نقيم في سجن".
ورداً على طلب أرسلته الصحيفة لها حتى تقوم بالتعليق، ذكرت وزارة الخارجية الفلبينية بأنها شرعت: "بالتحقيق حول المزاعم التي تتصل بسوء المعاملة عند العيش في ذلك المأوى المؤقت، كما تمت التوصية باتخاذ الإجراءات اللازمة حسب الأصول". كما أعلنت الوزارة أنها: "اتخذت إجراءات فعلية لضمان سلامة وصحة الضحايا الفلبينيات اللواتي تعرضن لعملية اتجار وتهريب" في سوريا، وبأنها تسعى لتأمين سمة خروج لتلك النسوة مع دفع أي رسوم إضافية أو غرامات قد تفرضها الحكومة السورية. وقد ذكر مسؤولون فلبينيون أنه منذ كانون الأول الماضي، عندما تم التواصل مع الوزارة لتعلق على الموضوع، بدأت عملية إعادة قسم من تلك النسوة.
ومن بين 35 امرأة كانت ضحية للاتجار بالبشر فأصبحت تقيم في السفارة حتى شهر كانون الأول الماضي، ذكرت بعضهن بأنهن احتجزن هناك لمدة سنتين بسبب عدم قدرتهن على تحصيل سمة خروج من سوريا، أو دفع تكاليف الطيران للعودة إلى الوطن.
كما ذكر عدد من تلك النسوة بأنهن تعرضن لضغوطات من قبل عاملين في السفارة حتى يعدن للعمل لدى العائلات السورية التي هربن من بيوتها.
وعن ذلك تقول جوفي بالوندو، 27 عاماً، التي أقامت في السفارة طيلة عام كامل: "أريد أن أموت، فكل واحدة منا تتعرض لضغوطات شديدة".
أما تاواجينغ التي روت كيف تم حزمها داخل علبة شحنت إلى دمشق قبل عامين، فقد تقطعت بها السبل، فبقيت في السفارة بعدما هربت من رب عملها في مطلع السنة الماضية، حيث تقول: "هربت لأن رب العمل الذي كنت أعمل لديه حاول أن يغتصبني، وهذا ما جعلني أتوجس وأتوتر من البقاء هناك".
وتمضي هذه المرأة معظم أيامها في الفراش إذ لا شيء يمكن أن يشغلها. وقد ذكرت أنها لم تستطع التواصل مع ولديها في الفلبين والبالغة أعمارهما 9 و10 سنوات طيلة مدة تجاوزت السنة، وذلك لأنه ليس لدى أسرتها خدمة إنترنت. إذ بوصفها أرملة، ترتب على تاواجينغ أن تسافر إلى الإمارات لتعيل ولديها وتؤمن مستقبلهما، وعنهما تقول: "أشتاق إليهما كثيراً، إلا أننا مانزال نأمل وننتظر أن تصلنا أية أخبار حول موعد سفرنا إلى بلادنا".
المصدر: واشنطن بوست