من حكايات السوريين المضحكات المبكيات، أنّ الأمم المتحدة أرسلت أربعة مبعوثين دوليين إلى سوريا، من أجل البحث عن حل ما لأزمتها، فجاء إليها أمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي عنان في العام 2012، لكنه قرّر الاستقالة بعد ثمانية شهور، بسبب عدم وجود دعم دولي كافٍ لمهمته.
ثم تلاه في المنصب والمهمة، الجزائري الأخضر الإبراهيمي، واستقال كما سابقه بعد أقل من سنتين، بسبب فشله في دفع المفاوضات لتحقيق أي تقدم يُذكر بين النظام والمعارضة، ولم يعد أحد يذكر الرجل إلا جلادو "الأسد" في السجون، حين قاموا بتسمية أنابيب مياه بلاستيكية قاسية ذات لون أخضر التي يستخدمونها لجلد السجناء باسمه!
ثم تولى القصة ستيفان ديمستورا، ويبدو أن الرجل تمتع بنفس طويل أكثر من سابقيه، فصمد في مهمته أربع سنوات، واستقال في النهاية، بعد أن وصل إلى حائط مسدود، ارتطم به عدة مرات، لكنه ترك أثراً في غير ملف، إذ يتذكّر الجميع تقسيمه لعناصر الأزمة إلى سلال، وأيضاً الوثائق التي سُمّيت باللاأوراق، وأيضاً تشكيله للمجلس الاستشاري النسائي التابع للأمم المتحدة، وغير ذلك من التفاصيل.
إلا أن ميزة الصبر التي تمتع بها، عزاها كثيرون إلى ارتياحه في أداء مهمته الممولة دولياً، إذ لم يلاحقه أحد، ولم يسأله سائل، عمّا فعل وعمّا أنجز! فالعذر متوفر، إذ ثمة نظام لا يريد أن يتنازل في أي ملف، وهناك معارضات تلعب بها الدول إقليمياً ودولياً..
ورغم أن معظم ما اجتهد من أجله الدبلوماسي مزدوج الجنسية (سويدي وإيطالي) كان يرافقه في كل ارتطاماته المتعددة، إلا أن ميزة الصبر التي تمتع بها، عزاها كثيرون إلى ارتياحه في أداء مهمته الممولة دولياً، إذ لم يلاحقه أحد، ولم يسأله سائل، عمّا فعل وعمّا أنجز! فالعذر متوفر، إذ ثمة نظام لا يريد أن يتنازل في أي ملف، وهناك معارضات تلعب بها الدول إقليمياً ودولياً، وكل هذا على أرضية اللامبالاة تجاه الضحايا من المدنيين، الذين كانوا يسقطون ليل نهار، في المعارك والاجتياحات!
وفوق كل هذا وذاك، كان الرجل وما زال بليداً، يستسهل اللجوء إلى الحلول المتاحة، طالما أن الوصول إلى الخاتمة المطلوبة، يحتاج إلى جهد أكبر، والمضي في خطوات أصعب.
هل تجنّى ناشطو المعارضة على ديمستورا، حين اتهموه بمحاولات الضغط عليها، والالتفاف حول مطالبها، وممالأة النظام؟ لقد سمعنا وقرأنا، عن تلك التفاصيل، لكننا لم نسمع أو نقرأ روايته عن الصعاب، التي واجهها في مهمته، لكن تبيان سلوك الرجل في المهام الأخرى، التي كُلف بها، يُظهر أن مهامه السابقة في العراق بين عامي 2007 و2009، في لبنان عام 2005، وأفغانستان بين عامي 2010 و2011، لم تكن تحتاج إلى بذل جهد كبير، كما في القصة الدموية السورية!
وإذا نظرنا في مهمته الحالية، التي يشغل فيها منصب المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية، أي الإقليم الذي ما زالت أزمته مستمرة منذ سنة 1975، وحتى يومنا هذا، إذ تطالب جبهة البوليساريو باستقلاله عن المملكة المغربية، وتثبيت "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" التي أعلن قيامها عام 1976، فإن آخر ما وصل إليه ديمستورا، في شأنها، يعطينا فكرة أكثر من واضحة، عن طريقته في تدبير الأمور، فقد اقترح تقسيم الصحراء إلى جزأين، واحد للمغرب والآخر للبوليساريو، وكأنه أمٌ أو أبٌ يقرّر الإنصاف بين ولديه! وطبعاً رفض المغرب وكذلك جبهة البوليساريو المقترح، وبات عليه أن يجد مخرجاً، لأزمة مهمته ذاتها، تحت طائلة صرفه منها.
غياب الضغط الدولي الفعال، من أجل إرغام الأسد على القبول بحل ما، والذي صار أبشع ملامح الأزمة، وأدّى فيما سبق إلى استقالة المبعوثين السابقين عنان والإبراهيمي، لا يبدو أنه يشكل أزمة لدى زميلهما الحالي، فالأمر بالنسبة له وظيفة، يمكن الاستمرار بها..
أما المبعوث الحالي، الدبلوماسي النرويجي غير بيدرسن الذي تولى المهمة في كانون الثاني 2019، فما زال على رأس عمله، يغيب كثيراً، ثم يعود بين الحين والآخر، ليصدر بياناً، أو يطلق تصريحاً، من دون أفق واضح للمسارات التي يتوجب عليه أن يخوض فيها من أجل حل الأزمة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما واجهه سابقوه من مصاعب، وعلى رأسها تعنت النظام المدعوم من قبل إيران وروسيا، صارت أشد صلابة، في ظل تشابك المصالح الدولية والإقليمية، للجهات المتورطة في الصراع، وتعثر مسارات العملية السياسية (عملية جنيف، واللجنة الدستورية) وأيضاً استمرار الصراع العسكري، رغم الهدوء النسبي على خطوط التماس.
غير أن غياب الضغط الدولي الفعال، من أجل إرغام الأسد على القبول بحل ما، والذي صار أبشع ملامح الأزمة، وأدّى فيما سبق إلى استقالة المبعوثين السابقين عنان والإبراهيمي، لا يبدو أنه يشكل أزمة لدى زميلهما الحالي، فالأمر بالنسبة له وظيفة، يمكن الاستمرار بها، طالما أن لا أحد يهتم، خاصة، وأن العالم يتسع الآن لأزمات أخرى ملتهبة، في أوكرانيا، وفلسطين، والسودان، وغيرها.
إذاً، نحن أمام مشهد عبثي، يستمرئ اللاعبون الأساسيون فيه، أن يؤدوا أدواراً روتينية هامشية، لا جدوى منها، وبدلاً من أن يحظى ضحايا النظام الأسدي، بمبعوثين يتمتعون بحساسية مرتفعة، تجاه قضيتهم، بات عليهم اعتياد وجود أشخاص محسوبين عليها، بلا فعالية، لا يتذكرونهم إلا لماماً!
لقد صارت مأساة السوريين، مجرد عمل، في أروقة الأمم المتحدة، يعتاش منه هذا المبعوث، مثل من سبقه، ومع تلاشي الدعم المطلوب، من قبل الجهات الدولية، التي صارت توجه جهودها إلى بقاع تعيش كوارث أخرى، ربما نسمع قريباً سخرية ما، عن استقالة مبعوث الأمم المتحدة، لا لحساسية، أو لانزعاج من فشل في المهمة، بل لعدم توفر سيولة تغطي راتبه ومصاريف عمله!