الأسد قتل خصومه وأسكت من تبقى، وهذه هي أول شروط الطاغية، والباقي يأتي ببساطة. فالهيمنة على الخطاب الرسمي والمؤسساتي بالشكل والمنطق هو خطابه. وسكوت من تبقى يعني سلسلة ممنوعات تفرضها هيبة الطاغوت.
تلك هي أسس الكرسي الذي سيورث. صمت الجميع تقريبًا وقبول ثقافة صاحب السطوة كخطاب ملهم سيتحول بقدرة قادر إلى برنامج عمل للتربية والتعليم والمنهاج الثقافي الحزبي.
وأما الجيش العقائدي، فله حصة في المدونة الفكرية للنظام التي ستكون ذخيرته فيما لو فكر بعض الشعب من الحمقى أن يضمر نية ما.
هكذا تعامل المؤسس لسوريا الحديثة مع الجمهور. لقد كان متأكدًا أنه متفوق ومتفرد، ولم لا؟ ولقد منحه ذلك الهتاف والتصفيق وقصائد النفاق وكل من انتسب لهيكلية النظام البعثي.
وانتبهوا جيدًا، لقد أقام سدًا منيعًا لا يضاهيه أي سد، وبدأ بأساس يعتمد على إرهاب الأنفس أولًا، فلم يعد المواطن يرى أي حاجة للحديث مع نفسه؛ فالنفس أمّارة بالسوء، والصمت حكمة ومنجاة، والسكوت من ذهب. أما كلام المعدن الأرخص فهو متوفر في المسرح والشعر والسينما والكتب ودورات التثقيف التي اهتمت بالطفولة والشباب، بمنظمتين أولمت دائمًا كل الوجبات بالعلف العقائدي.
وهنا علينا أن نذكر منة القائد على المؤيد والمنافق والهاتف والمنتسب، مزيدًا من الفقر أغدق ليذهب الصواب وتتعمق صفة القائد الأذكى والأعلم، والذي سنعيد انتخابه بالدم. أما الجوع والحرمان وعدة أدوات أخرى، فتلك هي سياسة تصرف عن الاهتمام بالسياسة، وأيضًا السياسة سيمثل النظام وجهها الأكمل. فلماذا لا نعرف قدرنا الشحيح من المعرفة ونترك للقائد المفدى تلك المهمة العظيمة؟
الأسد ضمن كل سنوات حكمه تلك الحبكة، وحرص على أن يجدد سداها كل وقت. فهو لم يكن في هذا الموقع تحت أي قاعدة أو قانون أو أي مسمى شرعي.
وأما القصة، فتبدأ عند انتساب الأسد لحزب البعث (وقد يكون ذلك بأمر قوى ما)، والأيام التالية أنبأت بما كان يراد. وقد يضمن هذا الدور حزب تشكل على عجل. وكان الأسد يدرك أن كل الأنساق تصب في صالح قبيلة الطاغية؛ فالحزب هو قبيلته، والحزب نفسه أصبح هو الطاغية، مفترشًا أرضية الفكر العربي عمومًا والمشرق خصوصًا، الذي كان وفيًا عبر فترات زمنية طويلة لعملية الوهم التي كانت تخترع الأمجاد والصفات الكاملة، وتغدقها بسخاء يشبه سخاء مانح أوسمة طلاس، وزير دفاعه، التي زينت بدلته العسكرية. وبقينا حتى هذا اليوم نجهل أين وكيف كانت الانتصارات.
كان الحزب أداة طيعة ومرنة شكلت حاضنة للطاغية، اندمجت به وتعرّفت به.
ثم تأتي المهمة البناءة الأخرى في صنع الطاغية، فالأسد الأب قضى على خصومه تباعًا، ومتدرجًا، وصبورًا، فالمكافأة الأعظم آتية لا ريب بقدر صبره على أن يكون حزبيًا ظاهرًا ومحملًا بثقل وظيفي مستترًا. فما الحزب إلا سردية أو شكل من أشكال الطوباوية، ولا ينتسب كفكر إلى جذور تتوافق مع الديموغرافية السورية.
ولما أتى على عجل مستوردًا في جله، ولم يمنح ما يلزم من جهد ممنهج لتأصيل فكره، إذا افترضنا أن هذا الفكر جاء نظرية متكاملة الأركان، يتبين أن الأسد الأب أدرك أن ما سمي بنظرية هو خلط، لكن لا بأس، فهو أقصر الطرق وأنسبها للوصول، وفيما بعد سيتولى هو نفسه التطوير حسب فهمه. وفعل الرجل ذلك معطلًا عملية النقد الذاتي والنقد العام. بل أصبحت عملية النقد في حالة موت معنوي، وبعض الأحيان يقتضي الأمر الإعدام المادي.
الحزب، بوصفه الهيكلي والتنظيمي، فضاء متسع بخلق حالة الحاكم المتفرد، وليس مهمًا في لحظة ما أن يستمر مرتبطًا مع الفكر الذي ادعى الانتساب إليه بطرق ملتوية. وكان الحزب أداة طيعة ومرنة شكلت حاضنة للطاغية، اندمجت به وتعرّفت به. وهكذا انتسب الحزب للأسد، وسوريا انتسبت إليه (سوريا الأسد). والجيش انتسب إليه، والمدرسة والجامعة والمنظمات والشوارع والساحات وحتى التاريخ. أما البعث، فهو الواهب لكل المدائح والأوصاف والألقاب للقائد. وكل ما قيل وما سيقال هو قول الأسد، وكل ما سيُشرّع هو تشريع الأسد، فهو لا ريب القاضي الأول والمحامي الأول والمهندس الأول والطبيب الأول... إلخ.
لقد أقام البعث مع الأسد عقدًا بلغ حد أن تكون سوريا ملحقة كملك موروث لنسله. وكل ما أتى فيما بعد من موبقات كان نتيجة تعليق الأوسمة على صدور الواهمين، وإعطاء الأمن سلطة مطلقة ارتُكبت من خلالها جرائم غير مسبوقة، نُفذت بكل من نوى أو أشار للخروج عن النسق.
سوريا اليوم، بعد كل ذلك، بقي فيها أقلية سورية لا تملك المال للفرار، وأقلية أخرى حملت أثقالها الأصعب في التاريخ.
كان متعاليًا كطاغية وكحق من حقوقه، يقول ويشرح ويسوس ويعلم ويفكر ويقرر. أما مجلس الشعب والإعلام والمنظمات والعسكر، فلا يشترطون دليلًا على قوله. فليس عيبًا كذب الطاغية، الذي ورث دون أي حياء أو منطق أو معقولية السلطة. فهو سيعلن دائمًا أنه قاوم الإرهاب وأن سوريا تتعرض لمؤامرة كونية، وأن الرد الحازم مطلوب. وله أن يصف من ثار من شعبه بـ"الحشرات" و"الجراثيم"، وهو العادل الإنساني، وليس على حاضنته أن ترى عيوبه. وكل الذين رأوا فقئت عيونهم. وسيكون دائماً، وعلى مواطنيه أن يصغوا ولا يذهبوا إلى أي نوع من المقاربة مع مقام الطاغوت.
سوريا اليوم، بعد كل ذلك، بقي فيها أقلية سورية لا تملك المال للفرار، وأقلية أخرى حملت أثقالها الأصعب في التاريخ. وليس مهمًا أن يكون الحزب القومي في حالة تماهٍ ليتحول إلى فصائل أمنية أو كتائب إعدام. لقد ألغى الحزب نفسه وحوّل مفاهيم المواطنة وقيم الحرية والعدالة والمساواة إلى محرمات. والأسد منتصر على شعبه، وسلامته الشخصية هي سلامة سوريا، واستمراره في الحكم يعني أن الأمور بخير. وأما الخيانة، فهي خيانة الأسد فقط، فهو يمتلك كل المعاني وكل الأشياء وكل المعرفة، ودخل شرنقة ذهان غير قابل للشفاء، ويبدو مخلصًا لمشروع التواطؤ ضد الإنسانية والنهوض، وجادًا أكثر من أي وقت مضى في "حيونة" الإنسان السوري.