الحراك في السويداء والجسم السياسي

2024.08.02 | 05:37 دمشق

5133333333333336
+A
حجم الخط
-A

من الخطأ أن نسجل للسويداء دخولها معترك الصراع ضد السلطة مؤخراً. وللمتقصي الجاد، هناك حقائق لا يمكن إنكارها مهما حاولت السلطة أو غيرها من تشويش وتشويه وخلط الأوراق.

عندما أخذت السويداء قرارها بالحراك الأخير، كانت بكامل إرادتها وضمن شروط الثورة السورية. دون أدنى شك، كانت اللحظة مفعمة بهموم السوريين وأوجاعهم وأمانيهم. ولما كان الحراك تتملكه حرارة استثنائية كما هو شأن الثورة السورية، اعتقد الناس في الساحة أنه يمكنهم إنجاز مهمات متعددة معاً: تنوير، نهضة، واستقلال.

وفات الجميع في غمرة الحيوية الدافقة أن الكوابح معقدة ومركبة، وأن نزعة التغيير الميكانيكي ما هي إلا فورة اقتضاها واقع الحال. كان لابد من عبور الحراك بسجالات، وأحياناً مخاصمات ومشاكسات تناولت موضوعات الهم السوري، وكان كل فريق يعمل ضمن حقل الأسيجة العقائدية والتغييب المعرفي والسياسي.

اعتبر البعض أن ذلك أمر له إيجابية في عملية إنتاج رؤية مشتركة، والوقت كفيل بإنجازها، بينما اعتبر البعض الآخر أنها حالة كبح في معمعة الصراع السوري بين السلطة والشعب.

قد تستغرق عملية الحوار في الأيام المقبلة أوقاتاً طويلة وصعبة حتى تصل لمستقر قانوني وأخلاقي وثقافي

لفترة طويلة، كان القول بأن البحث عن قائد للحراك هو عودة لصناعة الاستمضاء وإحضاره قسراً، في وقت يشهد العالم متغيرات جذرية، وما كان مناسباً في الماضي لم يعد يتناسب مع الوقت الحالي.

أما الهيئة الروحية ممثلة بشيخ عقل الطائفة، فقد كان صبوراً ودؤوباً في حثه على أن تنتج الساحة هيكلية تنظيمية تفرز مؤسسات تدير الحراك ليكون فعالاً في تكوين حالة وطنية عامة. مع مرور الوقت الذي أعطي بسخاء لحسم الجدل بهذا الشأن، دخل النظام بكثير من التحرشات والإثارات غير مكترث بأي روادع أو موانع أخلاقية أو وطنية.

استمر ذلك بآليات النظام نفسها من اختراق عبر إفراز المزيد والمزيد من التيارات والأحزاب لتفتيت الحراك. وقد قارب تشكل تلك التيارات أكثر من خمسين تياراً، وكل تيار كان يعتقد أنه يملك الرؤية الموحدة. وفات الجميع أن ما يحصل هو إحدى أخس وأذل حالات التخريب.

طال النقاش حول مفاهيم القانون والدستور والديمقراطية والدولة، ليتولد اتجاه ثالث اعتقد شيخ الطائفة أنه مغاير، ومفاده أن التعددية والحريات في الخيارات السياسية استطاعت أن تخلق حالة مماهاة بين الاتجاهات عندما أولى مفهوم الديمقراطية أهمية في تثبيت أي منظومة قيمية وسياسية تفرضها الساحة. استطاع أن يحسم قضية الوطن بأنها التي تحسم السجال في وقت نعيش فيه مفترقاً هو الأخطر على الإطلاق.

في دعوات لاجتماعات متتالية، حُسم الأمر لإنتاج جسم سياسي، وقبل مرور عام على نهاية طول حراك سلمي، كانت البداية بدعوة للجنة منظمة عبر ممارسة الترشح عن التيارات كلها والتصويت، وتم الأمر بنجاح.

أتت التجربة لتؤسس لحق الاختلاف وتمضي لممارسته واقعياً. في الحقيقة، نجحت التجربة لأن الجميع أدركوا أن الحق قوة. هذه المرة الوحيدة التي كان فيها الحق قوة استطاعت من خلالها أن تحمي التجربة الوليدة والرائدة. وكانت عملية توزيع الحق بين رؤى وتيارات مختلفة بحق إعلان قبول الآخر والسعي لجعل هذا القبول ثقافة تؤسس لدولة حرة تعترف بالآخر وتسعى لحماية حقه في الاختلاف وتخلق بيئة حاضنة للوصول إلى قيمة التسامح بوصفه قيمة سياسية، ثم فيما بعد تحوله التراكمات إلى قيمة أخلاقية وثقافية منتجة لمجتمع يعترف ويتفق مع المختلف على خطة لتحقيق الهدف.

يبدو أن هدف التجربة في السويداء هو هدف عام يتفق عليه الشعب السوري. وقد استطاع الهدف المشترك تحقيق معطى موحد وخالق للحوار. قد تستغرق عملية الحوار في الأيام المقبلة أوقاتاً طويلة وصعبة حتى تصل لمستقر قانوني وأخلاقي وثقافي، وبينهم علاقات متشابكة ومعقدة مع الاقتصادي والتاريخي والهوية والانتماء البعيد عن الحشو واللغو العقائدي، وضامنه الدولة المنشودة، دولة العدالة والمساواة التي ضمنها القانون.

ما حصل في السويداء هو نموذج أتى نتيجة عمل لحراك قام في بنية تقليدية مسكونة بهواجس جداً معقدة متعلقة بالهوية والآخر والانتماء والسلطة القمعية.

وعلى تواضع التجربة وصغر حجمها جغرافياً وديموغرافياً، أعطت أملاً بإنتاجها على مستوى الوطن وأكدت أن العيش في سياق التعايش والتسامح ممكن. كل ممارسة مهما كانت صغيرة ومحدودة تحيل مع الحراسة والعناية إلى مجتمع حر لا تثير الإنسان فيه نزعات الإثنيات والعقائد.

نافلة القول أن ما حصل في السويداء هو نموذج أتى نتيجة عمل لحراك قام في بنية تقليدية مسكونة بهواجس جداً معقدة متعلقة بالهوية والآخر والانتماء والسلطة القمعية. ودلت بشكل حاسم على أن الجسم السياسي المعبر عن الاختلاف هو مقدمة ضرورية لدخول عصر الدولة الوطنية الفاعلة والفعالة بقوة التعدد والتنوع. حماية القانون المتجاوز لكل البنى الموروثة والمكتسبة، القانون الذي يحمي من الهيمنة السلطوية. أرى بوضوح أن الشعب السوري يسعى دون كلل نحو مصلحته هذه بوعي يزداد عبر التجربة مهما كانت صغيرة وآفاقها ضيقة.