إذا ما التقى طرفان في قضية تحيل إلى مواجهة؛ يتحول كل منهما إلى ند يحاجج الآخر بمحاكمات عقلية مقنعة عبر النقد، بما هو –النقد- ملكة تتحول في الحوار إلى أداة تعبر عن موضوعية متبعها ومرجعيته.
غير أن ما دار في أفلاك عالمنا الأزرق لم يرقَ لأن يكون أكثر من تنفيس وتفريغ لما يعتمل النفوس، وأن يرمي كلٌ بما لديه بعيدا عن النقد وطرق الحِجاج، ليجد القارئ نفسه بين طرفين متشاجرين بالصياح وإطلاق الأحكام التي لا تخرج عن كونها محض تنفيس، وبينما يتسلح المتدينون بنص ديني ثابت، يضمر اتجاهات تأويلية متعددة من داخله؛ وبتساوق مع نمط حياة متشارك مع الآخر خارج إطار ما تناوله الفقه وحدده منذ "صحيفة المدينة"، يقابلهم مريدو النزعة العلمانية بشطحات متقافزة لا أرومة لها سوى نظريات حقوقية ومعرفية لها أهميتها في زمانها ومكانها الصحيحين لم يستوعبوها أصلا لغرض إعادة إنتاجها، وتضم أفكارا جديرة بالنقاش والتحرير والتبيئة بما يلائم ثقافات المجتمعات؛ لكنهم أكسبوها صفة المطلق والوصفة المعلبة الجاهزة لكل وضع وحال، وشكلت في أحسن أحوال الخوض جدلا بيزنطيا بنسخته العربية الحديثة، بكل ما يحمله العلمانيون من وهم النخبة ونزعة التعالي وتملك الحقيقة التي أصبحت حكرا لهم بعيدا عن منظريها الأُوَل.
نعم لقد وصل مثقفونا في غمرة البريق الأخاذ لشعارات التفكيك إلى مرحلة الانتقال -دون أي إنجاز حقيقي- من تفكيك المقدس إلى التصنيم وتوثين المدنس، وليس المدنس هنا العلمانية بذاتها ولا أفكارها؛ بل بتلك النسخة المتصلبة المشوهة عبر تشربها بكثير من العقد والهوى الذي يدنس الدين أيضا لو دخله.
بدأت الدعوة في لَيِّ عنق النصوص والأفكار العلمانية والمدنية باتجاه تأويلها بما يناسب عقدة العداء للدين ليس بشكله "الداعشي" فحسب بل كثقافة ومرجعية أخلاقية مجتمعية
إن كان هناك عنف تأصيلي في جهة الدين فنحن بلا شك أمام عنف تأويلي يمارسه نسق مضمر من فتات اليسار الأقلوي تجاه كل ما هو ديني، يفرض فرزا جديدا لثنائيات متخشبة ويحاول تكريس رؤية التنابذ والمفاصلة، تلك التي يدينها في الدين في حين يتبناها هو في توجهه ويستفز أنصاره ومؤيديه للتحشيد لها، وبدلا من أن يمارس دور وعي وبحث وتفكيك في مجتمع يعترف الجميع بحضور الدين في مجاله العمومي؛ بدأت الدعوة في لَيِّ عنق النصوص والأفكار العلمانية والمدنية باتجاه تأويلها بما يناسب عقدة العداء للدين ليس بشكله "الداعشي" فحسب بل كثقافة ومرجعية أخلاقية مجتمعية، وذهبت باتجاه المطالبة بفصله عن المجتمع بدلا من فصله عن الدولة أو السلطة.
يقول ألكسيس دو توكفيل "إن المجتمع الفرنسي (العلماني) شهد تغيرات اجتماعية بنيوية تمثلت في التحول من الفيودالية إلى الرأسمالية اقتصاديا، ومن التفكير الأسطوري إلى العلمي ثقافيا، وفي العلاقات الاجتماعية من التأسيس على قاعدة الدين والإيمان إلى التأسيس على قاعدة المواطنة والإنسانية، ولم يبق سوى الملكية الفرنسية، ومن أجل تغييرها بنيويا قام الفرنسيون بثورة 1789م"، مما يعني أن الثورة الفرنسية جاءت كمحصلة لجملة تغييرات جذرية متدرجة وبنيوية من ثورة ثقافية واجتماعية واقتصادية ..الخ، هنا يبدو التغيير الثقافي حاجة ملحة وأساسا يبنى عليه بحثا عن مشتركات وطنية يمكن اعتمادها؛ بدلا من المهاترات التي لا تبقي ولا تذر على وشيجة من وشائج التواصل المجتمعي، وينذر بنشوء اصطفافات جديدة لا يكون فيها الاستبداد السياسي والديكتاتورية دالة ولا مقياسا، بل الموقف من الدين حصرا مما يحيل إلى اختلاط مؤيدي النظام وقسم من معارضيه في ذلك التوجه، وانتهاء فكرة الثورة بكل ما قدمته من تضحيات من وعي الكثير.
ولتغيير مزاج ما نحن فيه الآن تكفي العودة لتاريخ قريب للوقوف عند قيمة التعامل الاجتماعي وميدانها بوصفها مجالا عاما منفتحا للجميع، والتفكر في مستوى تفاعل أبناء سوريا التي لم يحمل يسارها في ستينيات القرن المنصرم عُقَد فشل سياسي يحيله إلى الدين كما هو الآن، إذ شارك السوريون بكل أطيافهم الدينية في تشييع مشايخ دمشق، وفي غمرة النشاط الاجتماعي وحتى الصراع السياسي في مؤسسات بناء الدولة السورية التي مثلت رمزا محوريا، ورسخت حالة من التظافر والاتفاق الضمني في وعيهم الجمعي، في الجانب المسلم –حتى لتبدو كلمة الجانب ناشزة وخارجة عن السياق آنذاك- شيعت دمشق فارس الخوري في سوريا 1962م كأحد أهم أبطال سوريا ورموزها اشتركت فيه كل الكتل السياسية الإسلامية وغيرها.
إننا كشعوب عربية أو حتى كشعب سوري يخوض ثورة ضد نظام دكتاتوري؛ عطل الحياة بكل أشكالها، ومفاصلها، وأعادها قرنا للوراء، لسنا مضطرين لاتباع خطوات الثورة الفرنسية؛ تلك التي لو واجهت ما واجهته ثوراتنا لما نجحت في تصدير قيم الجمهورية للعالم، وبعيدا عن عدائها للدين – وهو ما يتناقض والعلمانية إذ تعتنق اللائكية- ذهب ضحايا النزعة العلمانية باتجاه التطرف في عقيدتهم وفرض نسقها كشكل مؤسس للعلمانية، متمثلين ذهنية الإخضاع القسري وتكريسه كسلطة ثقافة غالبة، رغم عدم امتلاكها القدرة على بلورة مشروع حقيقي عبر سني الثورة الفائتة، وبعيدا عن مواقف مفكرين علمانيين اختلفوا مع الشيخ القرضاوي ونعوه باحترام لم يستطع مريدو النزعة تمثله.
في حال ثقافتنا التي تشهد مفكرين علمانيين كبارا، يطغى ضجيج مُريدين وأتباع جهلة يتبدى لنا الموقف واضحا في أننا نشهد مرحلة تنابذ وتناشز من منشأ أيديولوجي
لقد شهدنا منذ أيام قليلة نعواتهم الإنسانية للملكة إليزابيث عند وفاتها ولنا أن نتساءل ماهي الروابط التي تربط هؤلاء بملكة بريطانيا ذات الإرث الكولونيالي العريق في أفريقيا وآسيا حتى احتلال العراق وأفغانستان بالأمس القريب؟، خصوصا لأولئك الذين لا يعيشون في بريطانيا والدول التابعة لها، بينما يمثل الشيخ يوسف القرضاوي شريحة مهمة من علماء الدين الإسلامي في مستوى علمه واجتهاده في الفقه والتجديد، ومقاصد الشرع وفقه الأولويات، وفقه التغيير، وفقه الواقع، وفقه الأقليات، والاجتهاد، والموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، وباعتبارهم يخوضون في كل شاردة وواردة من أضاحي العيد إلى شعيرة الحج، ومن عمامة صلاح الدين حتى سروال البغدادي، لماذا سكتوا عندما ظهر ملك بريطانيا الجديد وهو يقسم بالله أن يحمي العقيدة والكنيسة ويحافظ على الديانة البروتستانتية؟، تلك اللقطة التي لو ظهر حاكم سوريا ما بعد الأسد بمثلها لأصبحوا يبحثون عن سيسي لينقلب على أخوَنةِ الدولة.
وفي حال ثقافتنا التي تشهد مفكرين علمانيين كبارا، يطغى ضجيج مُريدين وأتباع جهلة يتبدى لنا الموقف واضحا في أننا نشهد مرحلة تنابذ وتناشز من منشأ أيديولوجي، يرمي فيه هؤلاء الحجة على الإسلام في فشلهم بتشكيل أي جماعة وازنة تمارس دورا توعويا وتنويريا، بل وتمارس دورا منفرا حتى لمن يفكر من المسلمين في التقدم نحو مسافة وسط يتشارك فيها الجميع في بناء وطن العدالة والكرامة والحريات.
قبالة ذلك لا نعتبر ذوي التوجه الإسلامي ولا الإسلام السياسي الحالي بعيدا عن نمط مشابه من الأخطاء لكن تركيز النقد على حزب إسلامي يختلف تماما عن التعبير عن جلد الإسلام كدين، وثقافة تاريخية، ورجالات متعددي التوجهات؛ مما يستفز العامة من ذوي التدين الشعبي ويحيلهم للمضي خلف مرجعياتهم بعيدا عن النقد أو الطروح المتهافتة.
وفي مرحلة تنتقل فيها الدول والأحزاب والنخب من سياسة الأيديولوجيا إلى سياسة الخدمات، وبدلا من مرحلة تبادل الأفكار وبنائها أو تدافعها –لعدم تحقق الدولة- في الحال العربي، بتنا نشهد حرب أيديولوجيات، تحولت إلى حرب النزعات بدلا من حوار الأفكار، أو محاولة البحث في المشتركات العامة التي يمكن البناء عليها لبناء وطن يصون كرامة الجميع.