تشظي الشعوب بين سطوة الأنظمة وأزمة النخب

2024.09.29 | 06:28 دمشق

آخر تحديث: 29.09.2024 | 06:28 دمشق

منذ تسربت أولى مبادئ نظرية الدولة الحديثة- دولة الأمة تبعا للنظرية الفرنسية في مفهوم الأمة، والذي سرى سريان النار في الهشيم في بلدان أوربا، وكذلك إلى لبنان، سوريا، ومصرفي المجال العربي، اضطلعت النخب العربية في التنظير لمفهوم الأمة والدولة القومية ليحبطه مشروع سايكس بيكو، عاد بعد الاستقلال نظريا، ثم انحسر المشاريع إلى مشروع الدولة القطرية.
+A
حجم الخط
-A

منذ تسربت أولى مبادئ نظرية الدولة الحديثة- دولة الأمة تبعا للنظرية الفرنسية في مفهوم الأمة، والذي سرى سريان النار في الهشيم في بلدان أوربا، وكذلك إلى لبنان، سوريا، ومصرفي المجال العربي، اضطلعت النخب العربية في التنظير لمفهوم الأمة والدولة القومية ليحبطه مشروع سايكس بيكو، عاد بعد الاستقلال نظريا، ثم انحسر المشروع إلى مشروع الدولة القطرية.

يستدعى مفهوم الأمة عموما، ليس اتباعا لفكر البعث ولا الناصرية، فشتان مابين القومية كإرث تاريخي، وهوية جامعة، وفكر، وحضارة، وبين فعلها السياسي؛ حين اختزلت بأحزاب شمولية مارست إقصاء وقسرا واستعداء للأقليات العرقية، وإزاحة وتشويها للتاريخ والذاكرة والثقافة كقيمة حضارية تحتوي شتى بنى المجتمع.

تجتمع الأمة على مشتركات وقيم ومبادئ وتاريخ وحضارة، ولا يؤدي اختلاف الآراء والقراءات لنقضها؛ إلا ما قصد تحويلها إلى هويات دون دولتية؛ تحت مسميات مختلفة تخرجها من الخصوصيات الثقافية والدينية إلى جماعات محتربة أو يؤسس لاحترابها.

إن انبلاج سؤال الحداثة قد أصبح ملحاحا لدى كل الأمم التي لم تلتحق بركبها، ولعل مفردة ركبها تعني الريادة أو الشراكة والتي تختزل بالقيم الحديثة؛ في حين أنها مرتبطة بالقيم بعيدا عن كونها حديثة أم لا؛ فالغرب قد هجر القيم وأعلن موتها واختلق قيما جديدة قد لا تعرف كقيم بقدر ما هي قواعد قابلة للتحوير والتطوير والتزوير وأبعد ماتكون عن التلفيق لأن التلفيق يقتضي مبدأ متعاليا يقاربه ويشابهه، ما يدفع حكما باتجاه بلورة قراءة جديدة لمجتمعاتنا وصناعة حداثتها بما يتسق وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية والدينية.

إن تصور حالة العجز والإغراق فيه وامتهان جلد الهوية ومقوماتها، وإطلاق الأحكام المانوية والإغراق في الثنائيات العاجزة عن تفسير الاختلاف بين حضارتين أو نسقين حضاريين أدى إلى حالة استنقاع قاتلة، مثلما أن تصور تلك الحالة واعتبارها حكما مطلقا و صِفَةً لذاتٍ عربية/ إسلامية / شرقية يعتبر بحد ذاته مرضا يجب التشافي منه. من أعراض الفشل اعتماد نخبنا ضرورة طرح ما يشد أنظار الغرب في شتى مؤتمراتنا ودعواتنا الثورية ومثقفينا، وسارت بما سارت به الأحزاب الباحثة عن دعم أو تمويل؛ وكأن هذا الغرب يبحث عن نسق ديمقراطي حداثي عربي ليتبناه كي ينهض بأمته. وأمام ما نشهده من سقوط كثير من قيم الغرب بعد اشتراكه في قتل الفلسطينيين بغزة، وقطع التمويل عن مؤسسات أونروا، ورفضه استقبال مصابي الحرب من ضحايا غزة، ينبلج سؤال ملحٍّ بوجوهنا جميعا؛ هل سيدعم هذا العالم نشاط كتلة سياسية تبغي التأسيس لدولة حريات ومواطنة مستقلة ديمقراطية؟

يتحدث د سمير القصير في كتاب صدر حديثا بعنوان "مالم يقله ابن خلدون" عن نظرية الفراغ مشيرا إلى أن الأمة/ الشعب عندما لا تجد ما يلمها ويصهرها في بوتقة الدولة والعصبة لها؛ ستبقى هائمة سائمة منشغلة بما دون الدولة، وتتحول أو تنتكس إلى طوائف وقبائل وجماعات، و يفسر نشوء العصبية السابقة للدولة عند وجود فراغ، وهو ما يعني حالا آخر جديدا في ساحتنا العربية هو انهيار الدولة ونشوء فراغ يؤسس لعصبيات ماقبل دولتية في المستوى القطري إذ "إعمار الدول هو ملؤها بالمحتوى الثقافي والديني والاجتماعي والحضاري. وضدّ العمران الخراب والتخريب، وهو فراغ وإفراغ للدول من المضمون السابق، مع بقاء الهياكل الخارجية ليصبح الفراغ قوة كامنة، و نقطة الصفر السابقة للعصبية" وخير مثال حالنا اليوم المشابه في كثير من التفاصيل حال العرب قبل الإسلام وتمزقهم بين روم وفرس، وكان ظهور الدعوة الإسلامية خير مثال على إيجاد وعاء أطّر مجتمعا قبليا ممزقا في مشروع أسس لبعد حضاري دولتي؛ ولد في مكة، وتبلور في دمشق في العهد الأموي وماتلاه.

إن انهيار المشروع القومي الذي انتكس في حزيران 1967م، من دون بت موضوعي بعدم صلاحيته لم يتبع باعتراف النخب بالعجز عن رأب صدوعه، حتى تبدى أنه لم يكن مشروعا بأدوات وبرامج ومنهج؛ بقدر ما كان تمثلا لظاهرة شكلت انفعالا واندفاعا وموقفا شعبويا، عاشته ذات النخب التي عملت على اندغام العقل الثقافي تحت جناح العقل السياسي الذي اقترف الهزيمة فيما بعد، وعجزت عن استنهاضه من جديد؛ فتخلت عن فكرة القومية كلها إلا عبر عقل سياسي مؤطر؛ تجسد في صفوف حزب البعث في العراق وسوريا، مع فتات الأحزاب الناصرية المتشظية.

بالتوازي مع ذلك عجز المشروع الإسلامي عن طرح رؤيته أو تطويرها بما يتسق وشكل الدولة، إضافة إلى مكافحة شتى سلطات الحكم العربي العسكري له؛ لجعله نسقا حركيا يستهدف الأنظمة بالعنف، فانتهى إلى وصمه بالإرهاب كما في مصر سبعينيات القرن المنصرم، وبعد انتخابات الجزائر وفوز جبهة الإنقاذ في الثمانينيات. بالتساوق مع هذين المشروعين سقط مشروع اليسار الماركسي لارتباطه وظيفيا بالاتحاد السوفييتي، ما يعطينا محصلة عن ثلاثة مشاريع انتكست إلى مشروع الدولة القطرية، والذي فشل بتمزقه بين ظلال التيارات الثلاثة؛ فوقعت غالبية نخبنا بضرورة التجديد، وتاهت في شتاتها وتنابذت إلى ثللٍ؛ كل ثلة تتمثل أمة وتلعن أختها، غير أن معضلة فكرية يعانيها الجمع الحداثي العربي؛ تتمثل في حتمية التسلسل التحقيبي للحداثة الغربية وضرورة اتباع مسارها، مع تسلح بعض من هذه النخب بضرورة رمي كل ما تم تجريبه لمجرد فشله بعيدا عن عوامل فشل أي منها، فلا الإسلام السياسي التقط أنفاسه وحكم في دولة ما، ليصار إلى سقوطه عبر صندوق الاقتراع فيطور نفسه، وهو مايفسر انقلاب النظام الدولي عبر السيسي على ديمقراطية أتت بالراحل الشهيد محمد مرسي، وذاك لمنع الإسلام السياسي من تطوير نفسه وبرامجه على غرار النظام التركي، وكسبه الشعب عبر منجزاته على مستوى برامج التعليم والصحة والتحديث والخدمات أو سقوطه؛ مع علمانية سميت بالمرنة كنمط مشرقي استطاع أن يرتقي بالدولة وينتشلها من براثن التخلف والتبعية، قبالة ذلك خرج الشيوعيون من المعادلة وتناثروا بين ليبرالية مستوردة، ويسار تقليدي وقع جزء منه في حلف محور الممانعة وحارب ثورات الربيع العربي، ونشأ خط علماني من شتات هؤلاء ومن علمانيين لم يستطيعوا بناء تصور مشرقي لا للحداثة بعيدا عن مفهوم الهيمنة، ولا للعلمانية بعيدا عن مفاعيل العمل السياسي في بلداننا وثقافات شعوبنا.

في الجهة الأخرى نجد أننا أمام تجربة في الخط الإسلامي؛ تمثل وجود أدوات مقاومة موروثة اجتماعية ودينية وثقافية خاصة احترفتها، واحترفت الاستمرار في أصعب الظروف، ولكن بلا برامج فتشابهت مع أخواتها النخب العلمانية وما ادعت امتلاكه والسؤال هل سنبقى بين مشروعين كليهما ناقص؟

يعتقد والحال هذه بوجود حل ثالث هو طرح الأمة سواء على مستوى الوطن العربي أو أي دولة قطرية على حدة وهو ليس سياسيا بل ثقافي؛ يفيد في تمثيل هذه الهوية والتجديد فيها، لاحترام مقدساتها، وثقافتها وتاريخها، وتنعتق من كل عقابيل تحررها وأولها الهيمنة الغربية، مع ضرورة رجوع هذه النخب عن قفزاتها في طرح نماذج معينة من دول أوربا المختلفة، وحصر مشاريعها بدولة حقوق وحريات، وعدالة اجتماعية، وتداول سلمي للسلطة.

ولعل السؤال الأهم هو هل ستبقى شعوبنا ونخبها رهينة الأنظمة التي شوهت الدولة؟ أم المواجهة بأنا أمام افتراق كبير بين نسقين أحدهما نسق الأنظمة المدعومة دوليا، والثاني كتلة الشعوب المحيدة والمثقلة بنخب تستجدي دعما دوليا.

إن قراءة رصينة لحالتنا تدفع باتجاه فهم أزمة الأمة، كما تدفع نحو تشكل نخب جديدة على مستوى دولنا؛ تشتغل كل منها بمحيطها على حدة مع إدراكها لرسالتها ولغرابة طرحها وندرته، وهو ما يخلصها من ثقل المتملقين والأدعياء، ومعرفتها بدورها كأنساق معارضة قد تصنف إرهابية أمام أنظمة دولها والمجتمع الدولي كذلك، فاستقلال الشعوب يبدأ باستقلال نخبها فليس لنا إلا بعضنا؛ فهل نقتتل أم نتصالح على أبسط مشتركات الشعوب والأمم؟.