أن يصل سعر الدولار الواحد إلى عشرة آلاف ليرة سورية في الوقت الذي يقل متوسط الأجور عن 150 ألف ليرة سورية، أي أقل من نصف دولار في اليوم فهذا مؤشر بالغ الدلالة على انهيار الدولة، ويمكن القول ببساطة شديدة إن هذه المرحلة هي النتيجة الحتمية لمقدمات كثيرة أدت لانهيار المجتمع والدولة، حيث تمّ خلال ما يزيد عن نصف قرن انتشار الفساد في كل مفاصل الدولة، وأصبح عرفاً سائداً لدى النسبة الساحقة من أفراد المجتمع، وصاغ علاقة هؤلاء بالدولة، وحتى بباقي أفراد المجتمع وعلاقاتهم الوظيفية والاقتصادية. وبتعميم الفساد تم نهب الدولة وإفقارها فانهارت مؤسساتها التي لم تكن أساساً قد تطوّرت إلى الحدّ الذي يمكنها فيه مقاومة ما هو أقل من ذلك.
ترافق تعميم الفساد ونهب واردات الدولة مع تعزيز القمع وتعزيز إمكانات مؤسساته إلى حد كبير، فما زاد من موارد الدولة عن خدمة السلطة وتقوية أجهزتها الأمنية وأدواتها القمعية الأخرى ابتلعه الفساد، وبالتالي فإن ما نشهده اليوم من انهيار الدولة والاقتصاد لم يكن بسبب الصراع الذي فجرته الثورة السورية في آذار 2011م كما يدّعي النظام، بل كان أساساً بسبب عقود طويلة من النهب والفساد، أضيف لها اختيار السلطة للقمع الوحشي كخيار وحيد في إدارة الصراع الذي ولدته الثورة لتكتمل المقدمات اللازمة لكي تنهار الدولة والمجتمع بشكل كامل.
منذ بداية الثورة وحتى اللحظة لا تزال أبواق النظام تعزف معزوفتها الناشزة ذاتها عند التطرق للواقع المزري الذي يعيشه السوريون، وتجترّ بلا ملل وبتكرار يثير السخرية سببين رئيسين له هما: المؤامرة الكونية، و"الإرهابيون" الذين ثاروا على حكمها، وتستشهد على ذلك بأن السوريين لم يكونوا على هذا الحال عشية انفجار الثورة، متجاهلة بصفاقة تدعو للاستغراب مئات الدراسات الاقتصادية الصادرة عن اقتصاديين سوريين يعملون في مؤسسات وجامعات الدولة، وعن إدارات مؤسسات اقتصادية حكومية، وكلها كانت تحذر من كارثة اقتصادية قادمة، وكلها كانت توضع جانبا ويتم الإبقاء على معادلة النهب والقمع والإفساد.
لم تختلف سياسة الدولة الاقتصادية التي انتهجها بشار الأسد عن تلك التي اعتمدها أبوه بعد انقلابه على السلطة 1970م إلا بزيادة أعداد الفاسدين وبرهن الاقتصاد السوري لقوى خارجية
صحيح أن الدولة السورية لم تنهر بشكل كامل قبل 2011، لكنها كانت قد أصبحت هشّة وضعيفة إلى حد كبير، وأن انهيارها بات مصيراً محتوماً، وكل ما فعلته الثورة السورية أنها كشفت هشاشة الدولة وكشفت أن السلطة السورية لم تكن بوارد إنقاذ الدولة يوما، أو بوارد تنفيذ الخطط اللازمة لتعافي الاقتصاد.
لم تختلف سياسة الدولة الاقتصادية التي انتهجها بشار الأسد عن تلك التي اعتمدها أبوه بعد انقلابه على السلطة 1970م إلا بزيادة أعداد الفاسدين وبرهن الاقتصاد السوري لقوى خارجية.
كانت بنية الاقتصاد السوري عند وصول حافظ الأسد إلى السلطة لاتزال تحمل إمكانات جيدة رغم الظروف القاسية التي كانت تعصف به منذ أن سعت سلطة البعث للتحكّم بالاقتصاد، والذي كان يترنّح تحت ضربات التأميم التي بدأها "عبد الناصر"، ويتخبّط في عملية التحوّل الاشتراكيّ غير المدروسة التي حاولها البعث، لكن حافظ الأسد الذي تسلّم السلطة عبر انقلابه العسكري لم يعمل على تعافي الاقتصاد السوري بل استغلّ هذا الوضع لترسيخ نمط جديد من صيغ العلاقات الاقتصادية أوصلنا إلى الكارثة التي نحن فيها اليوم، وأقصد الشراكة القسرية بين رجالات السلطة وبين ما تبقى من البنى الاقتصادية السورية التي نجت من التأميم أو التفتيت، وأصبح رجال السلطة شركاء في المؤسّسات الاقتصاديّة، هذه الشراكة أدّت إلى إنتاج طبقة اقتصاديّة طفيليّة، وهي بالمعنى الاقتصاديّ، غير منتجة، ومعيقة لأيّ تنمية اقتصاديّة حقيقيّة.
نتج عن شراكة السلطة مع الاقتصاديين وهيمنتها عليهم تراجع شرائح اقتصاديّة حقيقية كانت قادرة على إعادة عجلة الاقتصاد الحقيقي للدوران، ونمو شرائح اقتصاديّة جديدة داخل المجتمع السوريّ عقيمة بالمعنى الاقتصادي ويمكن تصنيفها إلى:
1- شريحة الشراكات التي نشأت بين أفراد من السلطة أو ملحقاتها، مع رجال أعمال وفعاليات اقتصادية كانت قائمة، الأمر الذي أرغم هذه الفعاليات على إعادة صياغة نشاطها الاقتصادي بما يتناسب مع الشركاء الجدد (الأجهزة الأمنيّة والجيش، الحزب...)، وليس بما يتناسب مع درجة تطور السوق وحاجاته.
2- الفئة الطفيليّة، وهي التي بدأت تتشكّل معتمدة على حماية وسطوة السلطة، ووصايتها على العمليّة الاقتصاديّة، وفرضت وجودها عبر قدرتها على تجاوز القانون، هذه الفئة يغلب عليها طابع السمسرة والوساطة والخوّة، وتغيب عنها المعايير الاقتصاديّة.
3- الفئة الثالثة، بقايا وحدات الاقتصاد السوريّ، والتي تبقّت من عمليّة التأميم، والسمة العامّة لها أنّها كانت ضعيفة اقتصاديّاً، وأنّها خائفة، فاتّجهت إلى ما يسمّى في الاقتصاد: دورة رأس المال السريعة، ووافقت على ابتزاز أفراد من السلطة لها كي تضمن بقاءها.
في المجتمعات الديمقراطيّة، والتي تستند إلى معايير اقتصاديّة وسياسيّة وعلميّة إلى حدّ ما، يمكن القول: إنّ اتّخاذ القرار يتمّ نتيجة التفاعل بين النسق السياسيّ مع البنية الداخليّة للمجتمع، على ضوء البنية الخارجيّة المحيطة به، أمّا في المجتمعات غير الديمقراطيّة، والتي تحكمها أنظمة مستبدّة قادرة على اتّخاذ القرارات بمفردها، فإنّ اتّخاذ القرار يتمّ بين القوى الفاعلة في النظام نفسه، وفي ضوء البنية الخارجيّة (وهذا تفاعل ضروريّ في الحدّ الأدنى لاستمرار هذه الأنظمة)، دون الاهتمام بمتغيرات وحاجات البنية الداخلية لهذه المجتمعات.
كانت الأزمة الاقتصاديّة تتفاقم داخل سوريا، وتطول البنية العميقة لهذا الاقتصاد، لكنّ النتائج المباشرة التي تترتّب في مثل هذه الحالة على المجتمع، كان يتمّ تخفيفها عبر المعونات الخارجيّة، وعبر تحميل الفئات الاجتماعيّة الدنيا أعباء إضافيّة، ومع هذا فإنّ معالم الفشل الاقتصاديّ، كانت تظهر في ارتفاع معدّلات التضخّم، وتدنّي مستوى الدخل الفرديّ، وفي ازدياد أعداد العاملين في مؤسسات الدولة (وصفت في سوريا بالبطالة المقنعة) وازدياد أعداد المواطنين المنزلقين إلى ما دون خطّ الفقر، وزيادة معدّلات البطالة.
في عقد الثمانينيّات، تراجعت المعونات الخارجيّة، وبدأت الأزمة الاقتصاديّة تضرب أعمق في بنية المجتمع، وجاء انهيار الاتّحاد السوفييتي ليفاقم الأزمة، الأمر الذي دفع النظام السوريّ إلى التفكير جدّيّاً في البحث عن حلول عاجلة لأزمة بنيويّة تعصف في كلّ مستويات المجتمع، فاستنفر منظّريه وخبراءَه، لوضع حلول لمواجهة هذه الأزمة الداخليّة.
تمّ استبعاد الليبراليّة الاقتصاديّة الحقيقيّة، لأنّ هذا يتطلّب بالضرورة الحدّ من الفساد، ويتطلب أيضاً إصلاحات عميقة في بنية الاقتصاد وشروط الاستثمار وقوانينه
ولأنّ الجهة القادرة على اتّخاذ القرارات الحاسمة في سوريا - في تلك الفترة - هي تقاطع مصالح رجال أعمال الطبقة الطفيليّة التي نشأت، مع شركائها في السلطة، فقد حُسم الاختيار بما يتناسب مع مصالح هذا التحالف، فتمّ استبعاد الليبراليّة الاقتصاديّة الحقيقيّة، لأنّ هذا يتطلّب بالضرورة الحدّ من الفساد، ويتطلب أيضاً إصلاحات عميقة في بنية الاقتصاد وشروط الاستثمار وقوانينه.
أيضا تمّ طرح مصير القطاع العام للبحث، خصوصاً في ضوء الفشل الذريع الذي وصل إليه، فتمّ اعتماد خطوات وخطط اقتصادية شكلية لا تتصدى بشكل حقيقي لأسباب الأزمة التي تستفحل شيئاً فشيئاً، فأطلق مرسوم الاستثمار 10، وبدأت عدة محاولات لم تأخذ بعين الاعتبار المحدّدات والمعايير الاقتصاديّة الحقيقيّة، بل جاءت رغبويّة، وغير علميّة، وتحاذر المسّ بمصالح التحالف: (رجال أعمال – رجال سلطة).
أيضاً، حدث الأمر نفسه فيما يخصّ القرارات الأخرى، التي تطول الأوجه الأخرى للمجتمع، فلم يتمّ إدخال المعطيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، في التفاعل الذي ينتج عادة القرار الأكثر ملائمة، واقتصرت مدخلات هذا التفاعل على مصالح رجال الأعمال المتحالفة مع السلطة الأمنيّة، هذا التحالف الذي كان قد أصبح أساسيّاً في بنية الدولة، وازدادت قوّته لاحقاً عبر ارتباطه بشبكة علاقات اقتصاديّة خارجيّة (خليجيّة، إيرانيّة، روسيّة، وغير ذلك) باختصار، لم يكن هناك أيّ حضور حقيقيّ، لمعالجة علميّة وعميقة لخروج الاقتصاد السوريّ من مأزقه الخطير.
تفترض كلّ السياسات الاقتصاديّة، سواء اقتصاد السوق الاجتماعيّ (الذي تم تبنيه بعد تسلّم بشار الأسد للسلطة) أو الليبراليّة الاقتصاديّة، أو..أو..، ديناميّات ذاتيّة، لا تستطيع العمل دون دمقرطة المجتمع، لكنّ إصرار النظام على الاستبداد كخيار وحيد لحماية مصالح تحالف (رجال الأعمال - السلطة) جعل من إمكانيّة السير في اللبراليّة الاقتصاديّة أو اقتصاد السوق الاجتماعي وغيرها، عمليّة شبه مستحيلة، وبالتالي كان انهيار الاقتصاد والدولة حتمياً ما لم يحدث تغيير عميق في السلطة وفي القوانين وفي حرية الإعلام والسياسة.