كتبتُ "إذن" بالنون، وليس بالألف المُنوّنة، اقتناعاً بقول المُبَرِّد - وهو أحد أعظم عُلماء البلاغة والنّقد والنّحو: "أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذنْ بالألف".
إذن دعوني أبسط فكرتي المتعلقة بأحد أنواع المنطق الغرائبي الذي اخترته عنواناً لهذه المقالة. سأتناول خبرَ أو فكرةَ أو واقعةَ استقبال أوروبا لمن لجؤوا إليها، وأرى ما هي النتيجة التي سنصل إليها مع أصحاب منطق فإذن وطبعاً. يقول أصحاب هذا المنطق أو بعضهم: "طبعاً وأصلاً لو لم تكن أوروبا مستفيدة من اللاجئين لما استقبلتْهم، فأنتم تعرفون أن أوروبا قارة عجوز وبحاجة إلى فتياننا الأشدّاء". هنا لا تدخل فتياتنا في الحسبان، لأن الموقف المسبق يقتضي الصورة النمطية المسبقة أو المتوخّاة عن فحولة شبابنا.
ولكن إذا أغلقت أوروبا حدودها في وجه اللاجئين أو شدَّدتْ شروط اللجوء، فسنجد أصحاب "منطقنا" يقولون: "طبعاً أوروبا تفضح نفسها بنفسها، فهي تدّعي دفاعها عن حقوق الإنسان في حين أنها تغلق حدودها في وجه الهاربين من طغاتهم خوفاً من الموت وبحثاً عن الأمان والكرامة.
هذا المنطق ليس جديداً أو طارئاً أو مرتبطاً بموجات اللجوء، بل هو قديم جداً، ويمكن تطبيقه على أي أمر أو موضوع أو نقاش، وقد يلخّصه حوار لم أعد أتذكّر في أيّ من الكتب التراثية قرأت تفاصيله، ولكن يمكنني مقاربة فحواه أو صوغه بطريقتي التالية:
(كان فلان إذا قال لصاحبه: هل تصدِّق يا صاحبي أني أشعر بخمول يضرب بدني حتى لا أستطيع أن أرفع يدي لأحك أنفي. أجابه صاحبه: بالطبع وبالبداهة، فمن يأكل خروفاً في الوجبة فلا بدّ أن يشعر بالوهن وارتخاء المفاصل والرغبة في النوم. وإذا قال له: هل تصدِّق يا صاحبي أني أشعر بقوى غامضة تفور وتمور في داخلي حتى لكأنني مسكون بعشرة جياد غير مروَّضة. أجابه صاحبه: بالطبع وبالبداهة، فمن يأكل خروفاً في الوجبة فما الذي يمنعه من أن يكون كجلمود إذا ضربتَ به حائطاً هدمه وارتدّ سالماً؟).
هذا المنطق في تحليل الأمور يمكن تلمّسه لدى كثير من المحلِّلين وتحليلاتهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتى التأريخ، حيث تتبدَّل المقدِّمات في أيّ أمرٍ، ولكن النتائج، كما الأهدف، تبقى على حالها.
ورغم هذه الفداحة في العقل والمنطق وقراءة الوقائع، فإن هناك ما هو أكثر فداحة. إنها قصة "فإذن" التي جعلت بعض أصدقائي في سجن صيدنايا يراقبون ردود أفعالي وهم يتحدَّثون ويحلِّلون قضيّة أو خبراً ما، خشية أن أقول بعد حديثهم، إذا لم يكن منطقياً، "فإذن".
لا بد إذن من شرح قصة "فإذن".
تقول القصة إن الحمصي أبا محمود وجاره أبا عبدو مثل ديكين على نفس المزبلة، أو حتى من دون مزبلة. كانا دائماً على خلاف واختلاف في الموقف من الرئيس جمال عبد الناصر. أبو محمود ضد عبد الناصر لأنه سجن أعضاء حزب الإخوان المسلمين، وأبو عبدو مع عبد الناصر لأنه أعاد للأمة كرامتها بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
يوماً ما كان أبو محمود ذاهباً إلى بائع اللبن في الحارة، وكان أبو عبدو عائداً من عند البائع وفي يده "زبدية" لبن.
حاول أبو محمود تجاهل أبي عبدو قصراً للشرّ، ولكن أبا عبدو ذهب باتجاهه، ثم وقف أمامه بكلِّ ثبات وحزم وهو يقول: ونهايتها شو يعني؟ هل ستبقى على نكرانك أن جمال عبد الناصر هو زعيم الأمة؟
ردّ أبو محمود بنوع من اللطف، فالظروف كانت حينها في صالح دعاة القومية العربية: يا أبا عبدو.. اِمسح وجهك بالرحمن ودعنا نأخذ ونعطي بما يرضي الله.
ردّ أبو عبدو: تتمسكن لأنك وجماعتك مهزومون، ولكني سأقنعك الآن بالضربة القاضية كما يقولون.
"خلّيك" معي أخي أبا محمود لأقنعك أن جمال عبدالناصر لا قبله ولا بعده. أنظر إليَّ جيداً. أليس ما تراه في يدي زبدية مليئة باللبن؟
قال أبو محمود: أشهد بالله أنها زبدية مليئة باللبن.
قلبَ أبو عبدو الزبدية ثم أعادها فارغة: انظر الآن.. هل في الزبدية لبن؟
قال أبو محمود: لا.
قال أبو عبدو: فإذن؟
ولأن الوقائع أقوى من التوقّعات، فإن منطق أبي عبدو يتمدَّد وينتشر ويعمّ بدل أن ينحسر ويضيق ويصبح إشارات باهتة لأزمنة مضت.
صحيح أن المنطق مرتبط بالنطق أساساً، ولكنه حين صار مصطلحاً ازدلفت دلالاته وصار لها نواظم وأحكام ومعايير، وبالتالي صار المنطق مرتبطاً بالكلام المُحكَم المتسلسل والمترابط بمقدمات ونتائج، ثم اتسعت دلالاته وحقوله حتى صار للنفس منطقها وللبنية منطقها وللأشياء وعلاقاتها في ما بينها منطقها.
ولأن للتهافت أيضاً منطقه فقد كان لا بد من "منطق فإذن وطبعاً".