"الدولة العربية المعاصرة: بحوث نظرية ودراسات حالة" كتاب صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من تحرير محمد حمشي ومراد دياني، ويتكون من مقدمة و15 فصلًا موزعة على 3 محاور: "بحوث نظرية"، و"دراسات تاريخية"، و"دراسات حالة".
يحاول الكتاب الذي جاء في 656 صفحة، الإجابة عن بعض الأسئلة المتصلة بالدولة العربية المعاصرة وقضاياها، مثل المواطنة والمواطنية والمجتمع المدني، وتنازع السلطة التنفيذية، وسياسات الهوية واستقرار الدولة، ومفاعيل الدولة الكوربوراتية التسلطية ودولة الرعاية، وإشكالية قياس "الدولة الفاشلة/ الدولة الهشة"، وتجاذب نموذج الدولة الحديثة/ الدولة السلطانية، واستمرار التقليدانية في بنية الدولة العصرية، والعنف السياسي، والمركزية واللامركزية، وغيرها من القضايا ذات الصلة. وتتقاطع المقاربات النظرية لفصول الكتاب الـ15 مع دراسات حالة لعدد من الدول العربية: سوريا، ولبنان، والعراق، ومصر، والسودان، وتونس، والجزائر، والمغرب. ولا يتسرع الكتاب في الإعلان عن فشل الدولة؛ فليست الدولة الفاشلة موضوعًا له، إذ أظهرت غالبية الدول العربية صمودًا ملحوظًا على الرغم من التحولات التي شهدتها، كما أن لها نجاحات مهمة في بناء المؤسسات والتحديث. لكن الاستبداد أوصلها إلى طريق مسدود، وثمة فشل ملحوظ في بناء الأمة على أساس المواطنة، وكذلك في التوفيق بين القومية الإثنية القائمة على الثقافة العربية والإيمان بجماعة سياسية عربية والأمة القائمة على المواطنة، وهو توفيق ممكن وضروري.
مقاربات نظرية لأسئلة الدولة العربية وقضاياها
يستهلّ أدهم صولي وريموند هينبوش، في الفصل الأول، مقاربات الكتاب النظرية للدولة العربية المعاصرة، التي يعدّانها "الجبل الذي يجب أن يتسلّقه علماء السياسة كلّهم عاجلًا أو آجلًا"، من منظور السوسيولوجيا التاريخية. ويعيدان صياغة مفهوم الدولة، في السياق العربي، بوصفها مسارَ تشكُّل وتفكُّك يجري داخل فضاءات اجتماعية، ويصفان بناء الدولة في العالم العربي وفق مقاربة "جَرسية"، بدلًا من المقاربة الخطّية في التقليد الفيبري أو الويستفالي؛ ومنها يستخلصان أنّ الإصرار المفرط على بناء النظام، وخاصة في وجود دافع للحفاظ عليه، عرقل البناء المؤسسي وإمكان التقدم نحو بناء الدولة العربية المعاصرة. أما رستم الضيقة، في الفصل الثاني، فيطرق إشكالية إعادة إنتاج الحقل السياسي العربي بين السيادة والجماعة، مُركزًا على تاريخية المصطلحات الفكرية السياسية العربية، من خلال قراءة نقدية مزدوجة لابن خلدون ومحمد عابد الجابري لهذا الحقل. وبعد اشتباكه مع المفهوم الأوروبي الحديث للسيادة، يفتح الضيقة نقاشًا حول إشكالية إعادة إنتاج الحقل السياسي العربي الراهن في سياق التحول من السيادة الإمبريالية الحديثة إلى السيادة الإمبراطورية ما بعد الحديثة، مركّزًا على أثر هذا التحول على موقع الدولة الوطنية العربية.
ويتناول سهيل الحبيّب، في الفصل الثالث، مفهومي المواطنة والمواطنية باعتبارهما صفتين للدولة/ الأمة العربية الحديثة؛ ويعود إلى سياق نشأة هذه الأخيرة، ثم يتناول تطوّر مفهوم المواطنة والبنى السياسية الاجتماعية التي يحيل إليها، وصولًا إلى اقترانه بنيويًا بنموذج الدولة/ الأمة الديمقراطية. ويعالج إشكالية المفارقة بين مفهوم الديمقراطية ومفهوم الدولة المواطنية في "التفكير" العربي المعاصر، وانعكاسها في مخاضات الانتقال الديمقراطي المقترنة بانتفاضات الربيع العربي. من جهة أخرى، يوسع محمد حمشي، في الفصل الرابع، أفق المقاربة للدولة في علاقتها بالمجتمع المدني ضمن "دراسات الجنوب الكبير"، مركزًا على أطروحات عزمي بشارة في كتاب المجتمع المدني. ويعدّ حمشي أنّ قيمتها المضافة تكمنُ في نقد المركزية الغربية وكشف قصورها عن إبراز قدرةِ المجتمع المدني التفسيريةِ ومفعوله النقدي ووظيفته الديمقراطية.
دراسات تاريخية في حالتيْن عربيتيْن
تغطي دراسة محمد جمال باروت، في الفصل الخامس، المرحلة 1943-1949 من تاريخ الدولة السورية، التي شهدت استقلالها السياسي ونشوء جمهورية برلمانية يحكمها دستور عصري مبني على الأسس التقليدية للنظام البرلماني. ويحاجّ باروت بأنّ هذه الجمهورية البرلمانية وُلدت معطوبة متعثرة، وأنّ الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم في 30 آذار 1949 أطلق "رصاصة الرحمة" على الجمهورية البرلمانية الأولى والأخيرة في تاريخ سورية، ليبدأ تاريخ الدولة التسلطية. ويسلّط سعيد الحاجي، في الفصل السادس، الضوء على استمرار الدولة في المغرب في توظيف أدوات الضبط والتحكم التقليدية في المجتمع، التي تعود إلى مرحلة الدولة المخزنية التي ظهرت منذ القرن السادس عشر، بوصفها إشكالية أساسية ترتبط ببناء الدولة المغربية ما بعد الاستعمارية. ويبرز الحاجي جوانب التقليدانية في بنية الدولة العصرية بالمغرب، مركزًا على جهاز "القايد" بوصفه إرثًا تقليديًّا لتكريس نفوذها في محطات تاريخية مختلفة. وعلى الرغم من العصرنة التي شهدتها الدولة، فإن البنية التقليدية ما زالت قائمة وتؤدي إلى تكريس تقليدانية لا تختلف في جوهرها عن نمط الدولة المخزنية في المغرب عبر قرون من تاريخه.
الدولة العربية المعاصرة: دراسات حالة متنوعة
يضم القسم الثالث من الكتاب دراسات حالة لعدد من الأقطار العربية: لبنان، وسوريا، والعراق، ومصر، والسودان، وتونس الجزائر، والمغرب. يتناول باسل صلّوخ، في الفصل السابع، إشكالية "دولة التوافقية" في لبنان ما بعد حرب عام 2006. ويحاجّ بأن توسّع القطاع العام على أسس طائفية حوله إلى مصدر للريع السياسي. ثم يخلص، من خلال تحليل زيادة سلسلة الرتب والرواتب في عام 2017 وتوقيتها ونطاق الضرائب المصاحبة لها، إلى أنها جاءت نتيجة لتسوية شعبوية عابرة للطوائف بين النخب السياسية، من أجل إنقاذ دولة المحاصصة التي انبثقت من اتفاقية الطائف. أما في حالة العراق، فيبحث حارث حسن، في الفصل الثامن، ما يسميه "الدولة النيوباتريمونيالية المقننة التي نتجت من تراجع نموذج الدولة الشعبوية-التنموية، ومرور العراق بتجربة الحكم الباتريمونيالي-الفردي. ويُميز حسن بين نموذجي "دولة المحاصصة" و"الدولة التوافقية"، مسلّطًا الضوء على مظاهر التأزم الدائم في نظام المحاصصة. ويرجّح استمرار حالة التأزم الدائمة هذه؛ ما يجعل الدولة معرضةً على الدوام للانهيار.
يتناول الكتاب في الفصل التاسع فحص الديناميات التي أدت إلى ولوج الدولة السورية أسوأ أزمة وجودية منذ تأسيسها في عام 1920. ويستكشف مروان قبلان، في هذا الفصل، كيف أدى تخلّي الدولة البعثية عن وظيفتها الاقتصادية، وتبنّيها سياسات اقتصادية ليبرالية (لمصلحة طبقة جديدة من رجال الأعمال)، وتراجع هيمنتها الأيديولوجية، وزيادة الاعتماد على ذراعها الأمنية، إلى تقويض آليات السيطرة التقليدية؛ فانتهى المطاف بالنظام الحاكم إلى تلاشي شرعيته، ما دفع إلى تحويل المعارضة السلمية إلى ثورة مسلحة، ثم إلى حرب وكالة إقليمية ودولية، مع تنامي دور العامل الخارجي.
في الفصل العاشر، يبيّن عبد اللطيف المتدين في دراسته عن سياسات الهوية واستقرار الدولة في المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب)، تأثير الهويات الثقافية الفرعية في استقرار الدولة في بلدان المغرب العربي، والتحدي الذي تطرحه في وجه بناء الهوية الوطنية. ويحاول اختبار قدرة هذه الدول على فرض عناصر هوية وطنية جامعة، مفترضًا أنّ التنوع الثقافي غير المنظَّم في إطار سياسات عامة متوازنة من شأنه إذكاء الولاءات المحلية وإبراز الهوية الأمازيغية ورفعها فوق الهوية الوطنية.
وعن حالة الجزائر، يتناول عبد القادر عبد العالي، في الفصل الحادي عشر، نمط الدولة الكوربوراتية التسلطية بوصفه مركبًا بنيويًا تنظيميًا وشكلًا من العلاقة بين الدولة والمجتمع، تؤدي مخرجاته إلى انتقال ديمقراطي مشوّه ومقيّد وغير مكتمل. ويطمح عبد العالي، من خلال حالة الجزائر، إلى بناء تعميم استنتاجي لجميع الحالات في المنطقة العربية، وكشف طريقة عمل الدولة الكوربوراتية التسلطية. وعن حالة الجزائر أيضًا، يحاول حامي حسان، في الفصل الثاني عشر، الكشف من خلال دراسة إحصائية مقارنة عن العلاقة بين تحولات الدولة الاجتماعية وإكراهات المسألة الاجتماعية في السياقات الاقتصاديّة المتأزمة. ويبيّن كيف يرتبط تراكم الاحتقان الاجتماعيّ وتراجع المشاركة السياسية بممارسات خصخصة الدولة، وانحرافات الأوليغارشية المالية؛ ليخلص إلى نشوء تحوّل في ثقافة المجتمع السياسية يستلزم انتقالًا ديمقراطيًّا يحافظ على مكسب الدولة الاجتماعية ويتجاوز أزمتها في الوقت نفسه.
أما عن حالة المغرب، فيرصد عبد العزيز الطاهري، في الفصل الثالث عشر، التلازم بين العنف السياسي وبناء الدولة، مفترضًا أن هذا العنف ذو صلة وثيقة بالمرحلة الانتقالية من الدولة التقليدية إلى الدولة الحديثة. وبعد استعراض بعض مظاهره وخصائصه في مغرب ما قبل الاستعمار، يدرس الطاهري هذه الظاهرة خلال عهدَي الحماية والاستقلال، ويوضح صلتها بالدولة وتطورها وعلاقتها بالمجتمع، ويبرز مظاهرها وأبعادها وأشكالها وأدواتها وانعكاساتها؛ ثم يستنتج جملة من التدابير من أجل انتقال ديمقراطي نحو دولة القانون القائمة على شرعية العنف واحتكاره. وعن حالة المغرب أيضًا، يسائل محمد أحمد بنيس، في الفصل الرابع عشر، دور الجهوية المتقدمة في تعزيز مركزية الدولة المغربية، وإعادة إنتاج مأزقها الإصلاحي، بين تطلّعها نحو تحديث محدود لآليات اشتغالها، والحفاظ على شكلها الموحّد وبنيتها المركزية. ويسلّط الضوء أيضًا على تأثير جيوبوليتيك الصحراء في تبنّي الجهوية في المغرب، مبرزًا غياب نموذج مؤسسي للتفاوض بين السلطة المركزية والقوى المحلية، فضلًا عن غياب تنظيم الصراع الاجتماعي وإعداد سياسات عمومية متوازنة.
أخيرًا، تتناول رويدة محمد عبد الوهاب فرح، في الفصل الخامس عشر، حالة السودان، من خلال دراسة نقدية لقياس مؤشر "الدولة الفاشلة"/ "الدولة الهشة" على واقع الدولة السودانية، التي لم تغب عن قائمة الدول الفاشلة في المؤشر عبر السنوات. ومع ذلك، تلفت الانتباه إلى أنّ السودان في الفترة 2006-2007 لم يصل إلى مرحلة الفشل، لكنه عانى واقعًا متأزمًا بسبب الصراعات والحصار الاقتصادي. ورغم ذلك، حققت الدولة معدلات نمو اقتصادي مرتفعة مقارنة بتاريخها في المؤشر. ومن خلال العودة أيضًا إلى انتفاضة كانون الأول 2018، تبرز الباحثة أنّ مؤشرات الدولة الهشة تواجهها العديد من المزالق المفاهيمية والتحليلية وتحديات القياس، فاتحةً بذلك الباب لآفاق بحثية أوسع للاشتباك مع السؤال: أيرجع "فشل الدولة" إلى أنها مستوردة من الغرب أم يرجع إلى أزمتها وضعفها، كما تبرزه دراستها للحالة السودانية؟