يسود الجدل في أوساط المعارضة حول مدى قدرة الفصائل على المواجهة في جبهات حلب، وإمكانية استنزاف ميليشيات النظام، وقدرتها على اتباع تكتيكات عسكرية تشبه إلى حد ما التكتيكات التي اتبعتها الفصائل في الملاحم الدفاعية التي امتازت بها جبهات كبانة في ريف اللاذقية الشمالي، والتي شهدت أعنف المعارك بين ميليشيات النظام الإيرانية وفصائل المعارضة منذ بداية العام 2019، وتجددت بشكل متقطع مع بداية العمليات العسكرية التي أطلقتها الميليشيات لقضم مناطق "خفض التصعيد" في محيط إدلب، والتي جرت على مرحلتين وصولاً إلى الوضع الميداني الراهن على مشارف مدينة معرة النعمان.
بطبيعة الحال لا تتحدث المعارضة في جدلية المقارنة بين الجبهتين من ناحية العوامل والمقومات والإمكانات المختلفة، والتي من المفترض بها أن تحدد شكل الملاحم التي تأمل المعارضة في تكرارها وتطبيقها في الجبهات الأكثر أهمية على مشارف المدينة التي أجبرت على الخروج منها نهاية العام 2016.
الوضع الراهن في جبهات الساحل.. محاولات إيرانية في الحفاظ على المكاسب
بدأت ميليشيات النظام الإيرانية منذ منتصف شهر كانون الثاني/يناير 2020 في عمليات إنشاء وتجهيز ثكنة عسكرية على أطراف مدينة سلمى في ريف اللاذقية الشمالي، وهي على مسافة 20 كيلومتراً تقريباً إلى الجنوب من نقطة المراقبة الإيرانية المتمركزة بالقرب من وادي باصور وتلة الـ 710 قبالة خطوط التماس مع المعارضة.
وتأتي تحركات الميليشيات المدعومة من "الحرس الثوري" الإيراني في المنطقة بعد أن طرأت مجموعة من المتغيرات في جبهات القتال مع المعارضة، وانتقال "الفرقة الرابعة" بعديدها وعتادها من جبهات الساحل والمرتفعات الجبلية إلى جبهات حلب، وتوقف المعارك بشكل شبه كامل في محاور العمليات التقليدية، وتوقف الدعم الناري الجوي الذي كانت تقدمه الطائرات الحربية الروسية للميليشيات على الأرض.
ويضاف إلى مجموعة المتغيرات والتطورات المفترضة، فشل الميليشيات في تحقيق أي اختراق في دفاعات المعارضة في جبهات كبانة، والمرتفعات الجبلية في الشمال الغربي، وخسارتها في المعارك مع المعارضة لأكثر من 1000 عنصر من "الفرقة الرابعة" و "سرايا العرين" ومن مجموعات المصالحات، فضلاً عن الخسائر الكبيرة التي منيت بها في العتاد الحربي الذي بدا متهالكاً.
ويضاف إلى ذلك أيضاَ، محاولة ميليشيات النظام الروسية شغل الفراغ الذي تركته "الفرقة الرابعة" خلفها في المنطقة، وهي محاولة روسية لبسط النفوذ تكررت في سهل الغاب وحماة الشمالي مطلع العام 2019، ونجحت حينها المليشيات الروسية في تحقيق الهيمنة الفعلية على كامل خط التماس بعد مواجهات مع الميليشيات الإيرانية في بعض المحاور، واتفاقات تسوية ومبادلة مواقع في محاور أخرى، اشترك في عقدها والتنسيق لها، قائد "ميليشيا النمر" في ذلك الحين، سهيل الحسن، وقائد "الفيلق الخامس"، زيد صالح. هذه المرحلة مهدت فيما بعد لإطلاق العمليات العسكرية التي بدأت منتصف العام تقريباً، في بداية شهر أيار/مايو 2019.
في الغالب تم تأجيل الأعمال العسكرية في جبهات كبانة والمرتفعات في ريف اللاذقية الشمالي إلى حين تحقيق مكاسب في جبهات حلب وإدلب، وفي هذه الفترة تحاول الميليشيات الروسية التوسع على حساب الميليشيات الإيرانية في جبهات الساحل وتهيئة الجبهات للمعارك في وقت لاحق وبإدارة روسية، في المقابل لا تبدو الميليشيات الإيرانية راضية عن السيناريو المفترض، والتنازل عن نفوذها في المنطقة، وستدفع في اتجاه تعزيز وجودها، ويبدو أن إنشاء ثكنة عسكرية على أطراف مدينة سلمى قد يليه خطوات مشابهة حول نقطة المراقبة الإيرانية وفي أكثر من موقع قبالة خط التماس، ولا يعني ذلك رغبة الميليشيات الإيرانية في المواجهة مع الميليشيات الروسية إنما محاولة للاحتفاظ بما تبقى من مناطق نفوذ للاشتراك فيما بعد في تقاسم المكاسب المفترضة، أو على الأقل البقاء كطرف مؤثر لا يتم تجاهله، وهذا يتطلب تمسكاً في الميدان وربما المشاركة في المعارك التي تبدو مكلفة لكنها ضرورية.
ملاحم الدفاع في كبانة.. مَن يدافع عن المنطقة؟ وكيف فشلت تكتيكات حزب الله؟
بالتوازي مع بدء الهجوم شمال حماة مطلع أيار/مايو 2019، شهدت جبهات كبانة وجبلي التركمان والأكراد في ريف اللاذقية، الهجمات الأكثر جدية، وبدا الأمر أشبه بصفقة بين الميليشيات الإيرانية والروسية، تتكفل خلالها الميليشيات الإيرانية بالعمليات البرية وتقدم روسيا والتشكيلات التي تدعمها الدعم الناري الجوي والبري تمهيداً للمعارك التي اندلعت على طول خط التماس والتي كانت أكثر تركيزاً في كبانة على اعتبار أنها تقابل محور التقدم المفترض الذي كانت تنوي الميليشيات من خلاله الوصول إلى مدينة جسر الشغور وفصل المنطقة الجبلية عن إدلب عموماً.
الميليشيات من "الفرقة الرابعة" و "سرايا العرين"، وتشكيلات من فصائل المصالحات شنت مئات الهجمات البرية في محور كبانة وفي محاور المرتفعات الجبلية المحيطة خلال ستة أشهر من المعارك المتقطعة، وامتدت المعارك في كثير من الأحيان نحو الشمال الغربي في تل الحدادة وغيرها، جميعها باءت بالفشل، وفي كل مرة كانت الفصائل المعارضة تبدي مقاومة أعنف في التصدي للهجمات وتوقع في صفوف القوات المهاجمة الخسائر في الأعداد والعتاد الحربي.
حاولت ميليشيات النظام الإيرانية الاستعانة بالتكتيكات التي يتبعها عادة مقاتلو ميليشيا "حزب الله اللبناني" في معارك المناطق الجبلية، حيث تتمركز سرية كاملة من "حزب الله" في نقطة المراقبة الإيرانية عند "المرتفع 710" في ريف اللاذقية الشمالي، واشتركت في معارك الشهر الأخير من العام 2019، وتضمنت التكتيكات التي طبقتها الميليشيات، استخداماً أكبر للمدرعات المصفحة والمهيأة للهجمات في المناطق الوعرة، وعمليات تسلل ليلي واستخدام أوسع للذخائر المدفعية والصاروخية من مسافات قريبة، واستخدام للغازات السامة في بعض المحاور لخرق دفاعات المعارضة وقتل مقاتليها المرابطين المتحصنين في التلال الوعرة، كل تلك التكتيكات لم تثمر في إحداث أي خرق في دفاعات المعارضة.
يكثر في أوساط المعارضة تداول المعلومات التي تتحدث عن الدور الكبير للفصائل الإسلامية والتنظيمات الجهادية في عمليات الدفاع التي جرت في كبانة ومحاور منطقة الساحل، أي أن وجود المقاتلين من "الحزب الإسلامي التركستاني" و "جبهة أنصار الدين" و "حراس الدين" وتنظيمات وفصائل أصغر كان العامل البارز في الصمود هناك.
وتبدو الرواية المتداولة مطابقة نوعاً ما للرواية التي تروج لها مواقع إعلامية موالية للنظام، والتي تتحدث عن أن التشكيلات المسلحة التي تقاتلها في ريف اللاذقية الشمالي هي تنظيمات جهادية وفصائل إسلامية فقط، في حين أن واقع الجبهات هناك مخالف تماماً لما يروج، فالفصائل من "الجبهة الوطنية للتحرير" تشغل حيزاً واسعاً من نقاط الرباط، وبالأخص "أحرار الشام"، وفصائل أخرى.
وتبدو عوامل الصمود كثيرة، منها الطبيعة الجبلية الوعرة لمنطقة التماس في كبانة وجبلي التركمان والأكراد، وتحصينات وأنفاق وأساليب تمويه ذكية، ومقاتلون متمرسون، قسم كبير منهم من أبناء الساحل، أي أن لديهم خبرة طويلة في القتال في المنطقة الجبلية، اكتسبوها في المعارك خلال السنوات الماضية، يضاف إلى مجموعة العوامل المفترضة، فاعلية متدنية للنيران التمهيدية التي تستهدف مواقع المعارضة المتقدمة، وصعوبة رصد تحركات المعارضة جواً وبراً، واستحالة الاستخدام الواسع للمدرعات والدبابات في العمليات الهجومية من جانب الميليشيات، كل ذلك وعوامل أخرى كان لها فضل كبير في الملاحم الدفاعية في جبهات الساحل وإيقاع خسائر هائلة في صفوف "الفرقة الرابعة" وعموم الميليشيات الإيرانية.
ما تبقى لدى "الفرقة الرابعة" من عتاد حربي لا يتجاوز 40 دبابة من طرازات روسية قديمة تم نقل غالبيتها إلى جبهات حلب منذ بداية العام 2020، بالإضافة إلى راجمات "جولان"، ولا يزيد عددها على 30، نقلت أيضاً إلى حلب ويتم استخدامها في عمليات القصف منذ بدء الهجمات البرية.
جبهات حلب.. هجمات محدودة للنظام والمعارضة أمام تحد كبير
بدأت ميليشيات النظام الروسية والإيرانية هجماتها البرية في حلب قبل 72 ساعة تقريباً، لكنها حتى الآن تبدو محدودة واستطلاعية وتهدف إلى رصد تفاعل المعارضة مع الهجمات في مختلف المحاور ومحاولة إيجاد ثغرات وخاصرات ضعيفة يمكن التركيز عليها في الهجوم البري الواسع المفترض انطلاقه في أي لحظة حال تحقيق الأهداف الأولية.
نجحت المعارضة في التصدي لأكثر من 20 هجوماً شنته الميليشيات تباعاً خلال الأيام القليلة الماضية، وكانت محاور جمعية الصحفيين وإكثار البذار والراشدين وبيوت مهنا والبحوث العلمية في جبهات الضواحي الغربية والشمالية الأكثر تركيزاً، وامتدت عمليات الإشغال البري خلال 48 ساعة الماضية إلى جبهات الريف الجنوبي، في خان طومان والقراصي وخلصة وغيرها، ونجحت الميليشيات بالفعل في إحراز تقدم محدود في مستودعات خان طومان لكنها فشلت في باقي المحاور فشلاً ذريعاً، وخسرت أكثر من 20 آلية مدرعة ومركبة عسكرية وقاعدة صواريخ خلال المواجهات، كما خسرت 100 عنصر على الأقل في المعارك.
آخر محاولات الميليشيات في جبهات حلب جرت، الإثنين، وتركزت في محوري الصحفيين وإكثار البذار في أطراف المدينة الشمالية الغربية، وخسرت الميليشيات خلالها أكثر من 20 عنصراً، وفشلت في تحقيق أي تقدم على الرغم من النيران البرية الهائلة التي مهّدت لتقدمها، حيث تبدو عوامل الصمود ومقومات الدفاع وافرة في جبهات حلب برغم الاختلاف الكلي عن طبيعة المنطقة في جبهات الساحل. ففي حلب خطوط تماس طويلة وتقليدية، وتحصينات وخطوط تماس رسمت في فترات متلاحقة خلال السنوات الماضية، وأعداد أكبر من مقاتلي الفصائل، العدد الأكبر منهم من أبناء ضواحي حلب وريفها، وهم مقاتلون متمرسون في قتال ميليشيات النظام الإيرانية التي تقود العمليات هناك.
لا تؤمّن جغرافية المنطقة في جبهات حلب حماية لمقاتلي المعارضة كما تؤمنها التفاصيل المكانية في جبهات الساحل، من حيث التضاريس الوعرة وإمكانية التخفي والتمويه والفاعلية القليلة للنيران الجوية والبرية التي تتمتع بها الميليشيات، لكن الفصائل في جبهات حلب تبدو نيرانها أكثر جدوى في استهداف مواقع المليشيات، حيث تشرف على تجمع واسع من مقار وثكنات الميليشيات في كامل خط المواجهة، ويجب على الفصائل أن لا تكتفي بالدفاع في جبهات حلب كما فعلت في جبهات الساحل، ففي جبهات حلب إمكانية البقاء في موقع المدافع المحتفظ بمواقعه لا تدوم طويلاً في ظل النيران الهائلة التي تستخدمها الميليشيات في محاور الإشغال، ومجرد أن تتمكن الميليشيات من كسر الخطوط الدفاعية الأولى فإنها ستواصل بشكل سريع تقدمها وقد نشهد انهياراً مفاجئاً في دفاعات المعارضة الثانية والثالثة، على عكس جبهات الساحل، فطبيعة المنطقة الوعرة تؤمّن خطوطاً دفاعية طبيعية، أي قضم على مراحل إن حصل، وتحتاج الميليشيات مع كل تقدم مفترض في منطقة التلال إلى تثبيت مواقعها تمهيداً للخطوة التالية.
في جبهات حلب تبدو المعارضة أمام فرصة ممتازة لشن هجمات برية تضرب الخاصرات الرخوة في الخط الثاني لمنطقة سيطرة الميليشيات، كالسيطرة على أحياء حلب الجديدة والضاحية والأكاديمية العسكرية والحمدانية مثلاً، والعودة مجدداً إلى أحياء المدينة والالتحام المباشر مع الميليشيات في "حرب شوارع".
على المعارضة إبداء جدية أكبر في المعركة والمخاطرة إن تطلب الأمر في حال كانت تعتبر معركتها في الشمال "ملحمة كبرى"، وأخيرة، تقرر من خلالها مصيرها.