من المؤكد أن الإنسان تشغله فكرة الموت بعدما تذبل شعلة التوقد والتمرد على كل مظاهر الحياة التي كان يعتقد أنه يستطيع أن يتجاوزها بالحلم مرة وبالجهد مرة أخرى، ولكنه يبقي في النهاية على شكل ودود للموت يتمناه فتسمع الكثيرين من يدعون بالموت واقفاً ودون حاجة أحد، وآخرون يرجون الجلطة والمفاجأة، ومسن يدعو بأن تكون آخر أيامه هنيئة بين أحبائه بسلام وهدوء، ولكن مع كل هذا الطيف الواسع من الأماني يمكن أن يكون أكثر وحشية مما تم تخيله.
في وطني على سبيل اليقين سقطت تلك الأحلام فالمتاح هو قليل جداً من الحلم وكثير من المباغتة، فالأسباب أقلها الجوع والبرد، ومن ماتوا تنوعت أشكال القبح والفظاعة إما في السجون وتحت التعذيب او مقبرة جماعية فيها بعض الأنس، أو غرقاً في مركب هارب إلى أرض يعتقد أنها آمنة أو في مخيم شريطي، أو حرقاً في فراشك أو قهراً في زنزانة أو محطة وقود فارغةِ، أو قتيل دون مبرر، أو ضحية جار حاقد انتقاماً من أيام يراها له وحده.
نحن من حوّلنا ملعب العباسيين في دمشق إلى ثكنة عسكرية تقصف الغوطة والأحياء الجنوبية للعاصمة، ومن ثم إلى سجن كبير ومقبرة جماعية
المقدمة هذه فقط استدعتني إليها مقاربة ربما يعقد البعض أنها مجنونة، فطوال شهور أراقب ما يفعله القطريون من بناء متسارع لملاعب وبنية تحتية يسارعون إنجازها، ونحن كنا نمتلكها وإن ببعض التواضع قبل عشرات السنين، وسيقول البعض إنهم يملكون المال وساهموا في دمار ما لدينا وهو مدرك أننا من فعلنا ذلك بأيدينا، ولكن بعودة صغيرة إلى سنوات قليلة نحن من حوّلنا ملعب العباسيين في دمشق إلى ثكنة عسكرية تقصف الغوطة والأخياء الجنوبية للعاصمة، ومن ثم إلى سجن كبير ومقبرة جماعية، وإذا عدنا إلى الوراء أكثر كان الملعب الوحيد الرئيسي في العاصمة الذي يستضيف الفعاليات الدولية ويسمع منه تعليق عدنان بوظو ومن ثم انخفضت إلى ياسر علي ديب الذي غادر لرزق أفضل فوجد ضالته بوجيه شويكي.
الأهم من ذلك أن فترة زهو العباسين كانت في فترة تدهور الكهرباء واستهزاء الحكومات السورية بالسوريين، فلا مباراة تحضرها في موعدها ولا يقدم لك أحد أي اعتذار عما حصل، والذهاب إلى الملعب نوع من العناء لأن المواصلات قليلة وبائسة، لذلك كانت المتعة متقطعة وذابلة حتى بدأت دورة المتوسط التي تم افتتاحها بعد جهود وسرقات ومن بعدها ملعب الحمدانية ونالنا نفس النصيب.
ألم نكن كسوريين نستحق بعض هذا الفرح في بلد بات لا كهرباء فيه ولا ماء، ولا إنترنت سوى البعض غالي الثمن، وغرباء يملؤون المكان بلكناتهم الجديدة
بالعودة إلى المقاربة المجنونة للموت هل كان من الممكن تصور الموت في ملعب العباسيين المعتم وفي أقل المتخيل أن يكون هو من يرسل لك به، أم أنك كنت تتمنى أن تكون في لحظة ما بين كل هؤلاء المحتفلين بين الأضواء والصخب والصراخ على هدف ضائع أو مشجعة غربية تجلس بجوارك تشجع خصمك دون أن تثير استفزازك، هذا أبيض أوروبي وهؤلاء صينيون، ويابانيون يخسرون ثم ينظفون الملعب، وهؤلاء أفارقة يرتدون لباس قبائلهم وعطرهم وربما سحرهم الأسود.
ألم نكن كسوريين نستحق بعض هذا الفرح في بلد بات لا كهرباء فيه ولا ماء، ولا إنترنت سوى البعض غالي الثمن، وغرباء يملؤون المكان بلكناتهم الجديدة، وأخبار لا تتحدث إلا في الغلاء وقلة ذات اليد، والبحث عن بلاد مهما كانت بعيدة أو مريضة لكنها تمنح بعض الأمل والحياة.
خرجت من هناك في بلادي التي ليست ببعيدة عني، صور الموتى وتحول بعضها إلى معارض تدور الأرض لتكون عبرة لمن يملكون بعض الأمان، هنا يا سيدي من سوريا صور قيصر ومذبحة التضامن وهذه أيضاً من جديدة الفضل وداريا ودوما وجسر الشغور وهنا كيماوي الغوطة.. فماذا لو كنت أحداً ممن أكلهم ذات يوم ملعب العباسيين؟