أسست معظم الأحزاب السياسية خلال فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا، أي بين العشرينيات والأربعينيات من القرن الماضي، تلك الفترة التي تميزت بقيام السلطات الفرنسية بتعميق الانقسامات العمودية في المجتمع السوري، بغاية السيطرة، واحتكار العسكر للقرار النهائي. ولم تكن الأحزاب اليسارية بعيدة عن ذلك الجو، فتأسيس الحركات الماركسية والشيوعية تم من خلال مهاجرين يهود وأرمن يحملون الفكر الماركسي "السوفييتي"، الذي يركز أولاً على محاربة الإمبريالية ودعم قلعة المعسكر الاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفييتي، وثانياً، الاهتمام بالقضايا المطلبية للطبقات الكادحة، أما الهمّ الوطني والقومي، فلم يكن بالكامل غائباً، وإنما أدرج للمرتبة الأخيرة، وبالطبع قضية الديمقراطية والحريات، كانت مصنفة كبديهية بأنها لعبة برجوازية غايتها تضليل الطبقات الكادحة.
بعد عقدين من الزمن، وفي نهاية الستينيات، جرت مراجعة لسياسة تلك المرحلة، ونتج عنها ما هو معروف بخروج تيار شيوعي يهتم بالقضايا التي كانت غائبة أو التي كان التفكير فيها أمراً محظوراً، وكان لهذا تبعاته المعروفة. وفي أواخر السبعينيات، تنامى نقاش موسع حول قضية الديمقراطية وأهميتها بحياة الأحزاب والشعوب، ولكونها "الطريق الأقصر نحو الاشتراكية"، إلى أن حُسم الأمر بتيني النموذج الديمقراطي في الحكم كحل أساسي وممكن، يمكنه أن يُخرج البلاد من مستنقع الدكتاتورية، كما أنه يفتح أفقاً فكرياً وسياسياً للنقاش، سعياً نحو إيجاد بدائل للوضع القائم. وكانت نتيجة تبني هذا الطريق مزيداً من التّهم من "الرفاق"، وحملة من الاعتقالات والتعذيب من قبل النظام.
صارت موجة الديمقراطية والليبرالية شبيهة بالموضة، فسارعت الأحزاب والشخصيات نحو تبني الديمقراطية بين ليلة وضحاها
بعد انهيار دول "المنظومة" العتيدة في أوائل التسعينيات، وسيطرة الولايات المتحدة كقطب واحد في العالم، وطروحاتها حول نشر الديمقراطية بالقوة وفق سياسة المحافظين الجدد -ذوي الأصول التروتسكية- صارت موجة الديمقراطية والليبرالية شبيهة بالموضة، فسارعت الأحزاب والشخصيات نحو تبني الديمقراطية بين ليلة وضحاها، شيء أشبه بالحلم، لكن من دون أي تأصيل فكري أو نظري، حيث الأساس القديم ما زال مستمراً، وهو الفكر الشيوعي الميكانيكي وليس الكلاسيكي، لكن مغطى بقشرة رقيقة من الحداثة الفكرية، التي سرعان ما تتطاير مع أول هزة، فعلى سبيل المثال، وقف معظم هؤلاء السياسيين والأحزاب إلى جانب الجيش في الجزائر ضد جبهة الإنقاذ بعد فوزها في الانتخابات. نحن مع الديمقراطية إن أوصلتنا نحن "الطليعة" إلى الحكم.
مع انطلاق الربيع العربي عموماً، والثورة السورية خصوصاً، التي لم تترك مجالاً للتواري والاختباء خلف مقولات فضفاضة، حيث الخيار بين قاتل وبين من يسعى نحو الكرامة والحرية، تكشفت جذور اليسار هذا سواء كبقايا أحزاب أو تيارات أو شخصيات. فرغم أن وحشية النظام والتدخلات الدولية واجتياح التيارات الجهادية للفضاء السوري جعل الأمر مربكاً للغاية وزاد من تعقيد الوضع، لكن كل هذا ما كان يجب أن يمنع رؤية الصراع الأساسي بين الشعب والنظام الأسدي، فرغم طول الصراع، إلا أن العوامل الأخرى يمكن عدّها مؤقتة وطارئة، وستنتهي يوما ما، لكن المشكلة الأكبر والسرطان هو نمط حكم الأسد كحكم فريد في قسوته وطغيانه.
والمهم في الأمر أن معظم "اليساريين" خرجوا من البلاد، ولكل أسبابه، أهمها الخلاص من آلة القتل اليومية، لكن الغريب في الأمر، بعد وصولهم إلى دول اللجوء والشتات، وتمتعهم بحالة من الراحة النسبية بعيداً عن القتل، أنهم نصبوا أنفسهم "قضاة" لمحاكمة الثورة وجمهورها، وخاصة الحالة العسكرية، التي تعقدت وأخذت منحى جديداً بفعل التدخلات الخارجية ونزعات التطرف الجهادية. وفي مقاضاتهم تلك، عادت جذورهم "اليسارية جداً" إلى الظهور من جديد. فمنهم من رأى أن تطرف الجماعات الجهادية المسلحة ساهم بإبعاد شرائح واسعة عن الاحتجاجات، ومنهم من صوّر التهديد الجهادي خطراً أساسياً يهدد وجودهم شخصياً، وصارت المفاضلات بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، وأيهم أشد خطورة. بالطبع الجواب معروف.
وهناك تيار من "اليسار" نفسه، ممن بقي في الداخل السوري، حيث الحصار والتجويع والقتل والتدمير، فكان خياره أكثر وضوحاً وحسماً ممن هم في الخارج، فنتيجة مقارنته تلك بين الاستبدادين المذكورين، كان انحيازه إلى السياسي ضد الاستبداد الديني الذي عدّه أساس كل دكتاتورية، بينما الاستبداد الجاثم على صدور غالبية السوريين، فقد يتيح بطريقة ما التعامل والتعايش معه، بينما الاستبداد الديني ممثلاً بعموم الحركات الإسلامية من دون تمييز -حسب منطق هذا اليسار- فهو ضد الحياة. وبالطبع لا ننسى تباكي هذا "اليسار" على مؤسسات وأجهزة الدولة الحيوية والضرورية لحياة الناس اليومية، فهي على حدّ زعمه، تقدّم الخدمات للناس، وليست للنظام وحده. ولنا هنا أن نسأل: هل التباكي من أجل الناس أم الخوف من حكم "الرعاع" بديلاً عن نظام الممانعة المناهض لإسرائيل والإمبريالية والمتحالف مع روسيا بوتين "وريثة" قلعة المنظومة؟
ما نشهده اليوم من تحركات وتظاهرات يظهر مدى وعي السوريين بقضيتهم وتمسكهم بخيار الثورة الأول، وسعيهم للاستقلال بقرارهم وبناء مؤسساتهم الحقيقية
ومناقشة لقضية مؤسسات الدولة، لا بد من القول بأن الصيغة الوحيدة لتلك المؤسسات في سوريا، هي المؤسسات المخابراتية، فهي لا تحول ولا تزول، ومستمرة في القبض على رقاب البشر، ولا يتأثر أو يتغير عملها هذا بتغير الحكومات والأنظمة، أما باقي الهياكل الإدارية، فهي خاضعة إلى حد كبير في قراراتها إلى المؤسسة الأمنية والعسكرية، وكلنا نعرف الصيغة التي تغير أو تلغي مضمون أي قرار، فضلاً عن تشكيل أعلى تلك الهيئات: الحكومة، وهي: الضرورة الأمنية، فبموجب هذه الصيغة جرى تدمير البلاد ولا يزال، كما يمكن إلغاء أو تشريع كل ما تراه تلك المناسبة ضرورياً، ابتداء من توظيف عامل وصولا حتى العلاقات مع الدول.
ما نشهده اليوم من تحركات وتظاهرات يظهر مدى وعي السوريين بقضيتهم وتمسكهم بخيار الثورة الأول، وسعيهم للاستقلال بقرارهم وبناء مؤسساتهم الحقيقية، كما يكشف عن سأمهم من تلاعب وتحايل "النخب والسياسيين" على مطالبهم وحقوقهم، وهذا يرتب على تلك النخب والسياسيين الوضوح في مواقفها من دون "ولكن"، أو الاعتزال بعيداً وترك البشر يقررون ما يشاؤون، فحق الوصاية قد انتهى. والناس يدركون تماماً أن المعركة في سوريا هي بين الغالبية ونظام القتل الوحشي، وكل الحركات التي تنتهج طريقه، سواء كانت ذات مرجعية دينية أم وضعية.