تجاوزت الساعة العاشرة صباحاً بقليل، ما يعني أن سميرة الحموي أصبحت في صفها وأخذت ترشد مجموعة أطفال بعمر المدرسة، وهم ينشدون أغنية يحفظون من خلالها الحروف باللغة العربية.
هذا هو الأسبوع الثاني لمعسكر اللغة العربية الذي أقامته شبكة الجالية السورية، وهي منظمة غير ربحية في شيكاغو بالولايات المتحدة، بيد أن حماسة الأطفال تزلزل الجدران وهم يغنون إحدى أغاني المطربة تايلور سويفت، وبعدها أغنية للبنانية نانسي عجرم، ليتفوقوا من خلالها على أدائهم وهم ينشدون أغنية تعليمية.
أزمة هوية
تبدأ الحموي، وهي لاجئة سورية أيضاً، بأغنية كلها تفاؤل كل صباح، وذلك لأن الأغنية عنصر أساسي في المنهاج العربي الذي وضعته وتدرسه اليوم في المعسكر الصيفي الذي يمتد لخمسة أسابيع.
الحموي وهي تدرس الأطفال حروف اللغة العربية
وحول ذلك يقول نيت سيفاك، المدير التعليمي في الشبكة، وهو من يساعد اللاجئين والمهاجرين في عملية إعادة التوطين وفي التغلب على كل العقبات التي تقف في طريق بنائهم لحياة جديدة في بلد جديد: "أتى هذا المعسكر نتاجاً لحوارات أجريناها مع الأهالي، إذ أصبح لدى اللاجئين السوريين الذين قدموا إلى هنا قبل خمس أو سبع سنوات أطفال لا يقرؤون العربية ولا يكتبون بها، وسمعنا من الأهالي كثيراً عن تعرض أولادهم لحالة انفصال وأزمة هوية بين عالمين مختلفين".
اللغة العربية لغة رسمية تتحدث بها 22 دولة من مجموع الدول في العالم، وهنالك في شيكاغو وحدها نحو 13 ألف شخص يتحدثون اللغة العربية بصورة رئيسية في البيت، وفي مختلف أرجاء الولاية، تحتل اللغة العربية المرتبة الخامسة بين أكثر اللغات المحكية في البيت بعد الإنكليزية والإسبانية والصينية والبولندية والتاغالوغية.
التلاميذ وهم يلعبون كرة القدم في معسكر اللغة العربية
ولكن ليس من السهل دوماً على الناطقين بلغة تعتبر لغتهم الأم التوصل إلى طريقة يمكنهم من خلالها الحفاظ على لغة وطنهم في مدينة مثل مدينة شيكاغو، إذ لا توجد خيارات كثيرة أمامهم خارج المساجد والحلقات الدينية، خاصة بالنسبة للشباب واليافعين. أما بالنسبة للأهالي الذين أصبحت لديهم أسر في شيكاغو، فإن تعليم أولادهم طريقة النطق بالعربية لا يعد جزءاً أساسياً من هويتهم، بل طريقة مهمة للبقاء على اتصال بالأدب والأحداث الجارية والأهل الذين ظلوا في البلد.
يقدم هذا المعسكر حلاً لمعضلة إجازة الصيف السنوية بالنسبة للأهالي في شيكاغو الذين يتطلعون لجعل أولادهم مشغولين على الدوام بدون أن يدفعوا أثماناً باهظة لقاء ذلك، وحول هذا يقول سيفاك: "أردنا تنظيم الجهود لمحو الأمية باللغة العربية، كما نهدف للخروج بشيء جديد وممتع".
خريطة داخل الصف تربط جنسيات معينة بدولها
عندما انتهت أغنية حروف الهجاء المترعة بالحماسة، ركزت الحموي على اللوح الذي علق بجانبها، وحملت بطاقة ملونة كتب عليها أحد حروف الهجاء باللغة العربية، ولهذا أخذت تخاطب صفها بقولها: "اليوم سنتعلم حرفاً جديداً، وهو حرف النون، ما اسمه؟"
فيرد الأطفال بصوت واحد: "نووون"
تخاطبهم الحموي من جديد بقولها: "كيف نلفظ هذا الحرف؟"
فيردون: "نننننن"
حرف النون هو أحد حروف اللغة العربية التي يبلغ عددها 29 حرفاً، والتي تأمل الحموي أن تعلمها لطلابها خلال فترة المعسكر، والهدف من ذلك تعريفهم باللغة العربية الفصحى المعاصرة، لكونها اللغة الرسمية للدول العربية، ولغة القرآن، واللغة المستخدمة في الكتب والدارسات الأكاديمية، وفي القانون والإعلام، إلا أن العرب نادراً ما يتحدثون بها في حياتهم العادية اليومية.
الطفلة سدرة وهي تلون حرف النون في المعسكر الصيفي
يعتمد النشاط الأول على رسم الحرف على ورق، ولهذا يحصل كل تلميذ على علبة ألوان شمع وأقلام تعيين، ليبدأ برسم الحرف، في الوقت الذي تجول فيه الحموي برفقة المعلمة المساعدة التي أتت من العراق إلى شيكاغو في عام 2022 بين التلاميذ في ذلك الصف الصغير. بعد ذلك، تعلم الحموي التلاميذ كيف يصنعون نحلة من الورق، بما أن اسمها يبدأ بحرف النون.
على إحدى الطاولات، تبدأ تالة، 8 أعوام، بقص ورقتها إلى ثلاث دوائر، وهي تقول: "وززز... وززز"، وتشدد على حرف الزاي وهي تلوح بالدوائر السوداء والصفراء في الهواء. وبينما تعمل تالة، تتحول النحلة إلى كعكة، ثم إلى كرة بوظة، ثم إلى قبعة مزينة، وتضيف إليها أخيراً ما يريحها في الحركة.
ولدت تالة التي اكتمل إشعاع طاقتها الكبيرة بفستان صيفي ذي لون أصفر فاقع، في الأردن، وهي تتحدث العربية في البيت، لكنها لا تستطيع أن تقرأ أو تكتب إلا بالإنكليزية، وهذا ما أثار قلق والديها.
أطفال يصنعون بالأشغال نحلة ضمن منهاج اللغة العربية
تخبرنا تالة وهي تنظر إلى نحلتها: "لا تسمح لي جدتي بالتحدث بالإنكليزية"، فيضيف آدم وهو طفل سوري عمره ست سنوات يجلس بجوارها: "لا تحب أمي حديثي بالإنكليزية، لكنه يعجبني". يرتاد كل من آدم وتالة مدرسة ابتدائية عامة فيها خليط من الأطفال الذين ولدوا في أميركا، وأطفال اللاجئين الذين قدموا من مختلف بقاع العالم.
توافق تالة آدم الرأي بقولها: "وأنا أيضاً أحب أن أتكلم بالإنكليزية".
تجلس خلفهم سدرة، وهي سورية عمرها 11 عاماً، أخذت تشكل نحلتها بطريقتها، إذ وصلت تلك البنت لشيكاغو برفقة أمها قبل شهرين بعدما أمضيتا ست سنوات في تركيا، وبذلك لُمّ شملهما بأبيها، محمد ظاظا، الذين استقر في الولايات المتحدة منذ عام 2016. وكغيرها من اللاجئين الصغار، تعرضت سدرة في دراستها لفترة انقطاع خلال السنين التي أمضتها في تركيا، حيث بقيت هي وأمها بحالة انتظار على أمل لم شملهم بالأب في الولايات المتحدة.
تخبرنا سدرة التي ترد بأجوبة قصيرة وبصوت منخفض بأنها تحس بحماسة كبيرة تجاه تكوين الصداقات وتعلم الكتابة باللغة العربية، ويعبر والدها عن المستوى ذاته من الحماسة.
سدرة برفقة والدها محمد ظاظا
يقول الأب، 38 عاماً، الذي كبر وهو يعمل بصناعة النسيج في أحد المعامل: "توقفت عن الدراسة عندما بلغت التاسعة من عمري حتى أعمل وأعيل أهلي"، بيد أن الإصابة جعلته قعيد كرسي متحرك، ولهذا يقول: "كان حلماً بالنسبة لي أن تتعلم سدرة لغتها الأم كما ينبغي لها أن تتعلمها، لأنها من خلال ذلك ستحمل معها ذكرى بلدها".
رابطة إيجابية وحلم تحقق
إن خلق رابطة إيجابية باللغة الرسمية المكتوبة يعتبر من صلب الدروس التي تقدمها الحموي، ولذلك تقول: "عندما أتيت إلى الولايات المتحدة، أدركت بأن علي أن أعلم طفلتيّ اللغة العربية، بيد أن الطريقة التقليدية لا تعجبني، لكونها تفتقر إلى التفاعل، ثم إن كثيرا من الأطفال لديهم تجارب سيئة في تعلم اللغة العربية وهذا ما جعلهم يكرهونها للأسف".
ولهذا السبب، قررت الحموي البدء بإعداد كل درس من دروس اللغة من الصفر، فاحتاج الأمر منها لست سنوات حتى تخرج بمنهاج فريد من نوعه، يعتمد على ألعاب ذهنية وأغان وكتب مصورة ومشاريع فنية وفيديوهات. وبالرغم من أن الحموي فصّلت الدروس على مقاس ابنتيها، إلا أنها كانت تتوقع دوماً تحويل تلك الدروس إلى دروس تلقن في الصفوف، وتقول عن هذا: "كان ذلك حلمي".
التلاميذ وهم يتناولون وجبة خفيفة ويلعبون كرة القدم خلال الفسحة
بالعودة إلى قاعة الصف التي تحتل مساحة طولية ضيقة، نجد النحلات الورقية وقد جف الصمغ عليها بعدما وضعت فوق رف للكتب، فتقف الحموي من جديد أمام الجميع في الصف، وتفتح كتاب: "الخروف الضال" لتقرأه على تلاميذها الذين انتبهوا لكل حركة تبديها.
خلال القراءة، تركز الحموي على العبارات المكتوبة باللغة العربية الفصحى وهي تقول: "مرض الجد في أحد الأيام" ثم تترجم فحواها إلى اللهجة السورية المحكية، وبذلك يربط التلاميذ المعاني فيما بينها، وعن ذلك تقول الحموي: "أريد منهم أن يكتشفوا الروابط لا أن يملوا، بيد أن هذا يعني بأن عملية قراءة الكتاب كله ستكون بطيئة".
تنتهي دروس الصباح بأغنية سورية وهي: "نور عيني يا بلادي.. شام يا نبض القلوب" والتي تحتفي بجمال الطبيعة في سوريا والشوق لها، وبنهاية الأغنية، يخرج التلاميذ لتناول الغداء، حيث تقدم وجبة غداء مجانية للجميع، مثلها مثل كل شيء آخر في هذا المعسكر. ولذلك يقدر سيفاك بأن المعسكر الذي يقدم خدماته لنحو 45 طفلاً عبر ثلاثة صفوف تدريسية وفئات عمرية، تبلغ كلفته التشغيلية عشرين ألف دولار تقريباً، وقد أتى معظم هذا التمويل عبر منحة قدمها مجلس التعليم بولاية إيلينوي الذي يمول بعض البرامج الساعية نحو إثراء الثقافات والتي تديرها مؤسسات مستقلة.
التلاميذ وهم يتدربون على الغناء
في أثناء تنظيف الحموي لقاعة الصف، تنسل ابنتها الكبرى ماريا إلى أحد الكراسي، فقد أتت إلى المعسكر برفقة شقيقتها، إلا أنهما لا تحضران الدروس الصباحية، بما أنهما ليستا بحاجة إليها.
تخبرنا الحموي وهي تنظر لابنتها البالغة من العمر 11 عاماً: "ما زلت أتذكر أول مرة قرأت فيها ماريا باللغة العربية، يومها شرعت بالبكاء وكنت فخورة جداً بها وبنفسي أيضاً لأن الأمر استغرق مني وقتاً طويلاً قبل أن أصل لتلك اللحظة".
لم يكن تعليم الحموي لابنتها القراءة بالعربية مجرد حالة تدريب على محو الأمية، بل بحثاً ثقافياً وسعياً للحفاظ على التراث العربي، ولهذا تقول: "اللغة هويتنا، وثقافتنا، وهي ما يربطنا ببلدنا".
المصدر: WBEZ Chicago