منذ أن تسلمت إسرائيل رفات العريف الإسرائيلي زكريا باوميل من الروس، لم تنقطع الأخبار والقصص المشوبة باللغط حول هذه العملية الغامضة، التي تبدو في الظاهر أنها تنتقص من هيبة نظام الأسد، وتضعه في موقف محرج للغاية، حتى مع أشد المتحمسين له والمدافعين عن مواقفه أياً كانت، بينما هي في الواقع ترجمة حقيقية للتفاهمات الصارمة بين النظام والاحتلال الإسرائيلي بعد اتفاق الهدنة للعام 1974.
والمعروف أن قنوات الاتصال بين النظام والقيادة الإسرائيلية لم تنقطع منذ توقيع ذلك الاتفاق الشهير برعاية أميركية وإشراف مباشر من وزير الخارجية هنري كيسنجر، وقد تكشفت فيما بعد أخبار عن ملحق سري يتضمن تعهدات من جانب النظام السوري وإسرائيل بأن حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 هي آخر الحروب بين الدولتين، وأن السبيل الوحيد لحل قضية الجولان أو أية قضايا بين الجانبين هو الطريق الدبلوماسي.
"عملية سلامة الجليل"
ولكن، ورغم التزام الجانبين بهذه التفاهمات لسنوات طويلة، وبسبب تعقيدات الخارطة اللبنانية في العام 1982 أثناء ما سمتها الدولة العبرية "عملية سلامة الجليل"، اضطرت كل من إسرائيل وسوريا لخوض معارك صغيرة في البقاع الغربي خصوصاً، خلال الأيام الخمسة الأولى للعدوان الإسرائيلي على لبنان، تكبد فيها "الجيش السوري" يومها وجيش الاحتلال خسائر كبيرة. ولكنها أيام عصيبة مرت بسلام على الجانبين، وعاد الأميركيون لتهدئة الأمور على جبهة البقاع الغربي، ومرت الشهور الثلاثة من العدوان الإسرائيلي على لبنان من دون تدخل سوري مباشر. رغم الدعم السوري غير المعلن للمقاومة اللبنانية التي كبدت إسرائيل خلال العامين اللاحقين حوالي 1500 قتيل.
كانت معركة السلطان يعقوب، أبرز هذه المعارك خلال الأيام الخمسة الساخنة من شهر حزيران 1982 وهي معركة أثير حولها في السنوات الأخيرة الكثير من اللغط بسبب إعادة الروس في التاسع والعشرين من أيار (مايو) 2016، لإسرائيل دبابة من غنائم "الجيش السوري" في تلك المعركة، وأيضاً تسليمهم الأسبوع الماضي جثمان العريف باوميل الذي تبين أنه كان مدفوناً في مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك منذ سبع وثلاثين عاماً.
خسائر فادحة
وكان لافتاً أن "الجيش السوري" الذي خاض معارك البقاع الغربي في الفترة ما بين السابع والحادي عشر من حزيران (يونيو) 1982، حرص أثناء تغطية وقائع هذه المعارك على التأكيد بأنها معارك قامت بها المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، رغم الخسائر الفادحة التي تكبدتها القوات السورية في هذه الأيام الخمسة الساخنة، إذ تخبرنا وثائق تلك المرحلة أن
"الجيش السوري" خسر خلال خمسة أيام 14 بطارية صواريخ من طراز سام 2,3,6 من أصل 19 بطارية كانت منصوبة في البقاع اللبناني، وفقد الطيران السوري 29 طائرة مقاتلة من طراز ميغ خلال يوم واحد. وفي مقابل هذه الخسائر تكبد الجيش الإسرائيلي حوالي عشرين قتيلاً، ودبابة مع طاقمها في منطقة عيتا الفخار التي عرفت باسم معركة السلطان يعقوب.
صمت النظام
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه المناسبة، لماذا تكتم النظام طوال هذه السنوات عن مسؤوليته المباشرة عن هذه المعركة؟ ولماذا لم تبادل جثث الجنود الإسرائيليين بأسرى سوريين؟ ولماذا أعطى الدبابة وجثث طاقمها لأقرب حلفائه من الفلسطينيين، وهو أحمد جبريل الأمين العام للجبهة الشعبية- القيادة العامة، ليستعرضها في شوارع مخيم اليرموك، في الوقت الذي يعرف الجميع أن قوات جبريل لم تشارك في هذه المعركة؟
الجواب يكمن في البروتوكول السري الملحق باتفاق فصل القوات للعام 1974 الذي أشرنا له، وهذا الملحق الذي أشار له كيسنجر نفسه في مذكراته بقي ساري المفعول رغم الأيام الخمسة العصيبة في بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان، وجاء الارتباك في تصريحات النظام حول عدم علم دمشق بهذه العملية ليؤكد استمرار نظام الأسد الابن بالالتزام بتعهدات الأسد الأب، رغم تغير الوجوه والظروف.