icon
التغطية الحية

معارض الكتاب في الداخل والخارج.. أسواق العرب الثقافية واختلافاتها

2024.08.24 | 15:24 دمشق

آخر تحديث: 24.08.2024 | 19:16 دمشق

757577
+A
حجم الخط
-A

لا تخطئ عين الناظر في التاريخ أو الأدب القديم أسواق العرب التي كانت تُقام في الجاهلية؛ فهي وإن كان عنوانها اقتصادياً فإنها كانت الساحة الأهم لاجتماع الشعراء والخطباء للقول والمنافسة، والمنبر الأعلى لإعلان التحالفات والإجارات، ولإشهار البراءات من المخالفين الخارجين على أعراف قبائلهم. دون أن يغضّ ذلك من أنهم كانوا يجتمعون في الحجّ بمكّة؛ لكنّ تلك الأسواق كانت أوسع بمَن يأتيها ممن قد لا يستهويهم الحرَم والتنسّك.

قد تكون تلك الصورة الجاهلية أقرب ما يصف المواسم الثقافية التي تكون في معارض الكتب في زماننا هذا؛ وحيث إنني من متابعي المعارض منذ معرض "مكتبة الأسد" (وكان هذا اسم معرض الكتاب الدولي الذي يقام في سوريا التي يرونها كمزرعة لهم فصادروا اسم المعرض كما صادروا كل شيء بما في ذلك حلقات التحفيظ "معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم" وغيرها) في أيام الثانوية، ثم زرت معارض الكتاب في الرياض والدوحة وإسطنبول لسنوات، مع معارض الكتاب التي بدأت منذ عامين في الشمال السوري؛ فقد كانت لي وقفات بعد المشاركة لأيام في معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي بدورته التاسعة/ آب 2024.

صحيحٌ أنه مضت 8 سنوات على انطلاق معرض للكتاب العربي في إسطنبول، لكنّ هذا لا ينفي أن إقامة معرض للكتاب العربي في إسطنبول في أجواء سياسية واجتماعية واقتصادية ضاغطة على الوجود العربي عامة في تركيا وعلى الوجود السوري (وهم عُمدة في المعرض) كان تحدّياً ليس بقليل، لاسيما وقد حضر افتتاحَه والي إسطنبول مع شخصيات ثقافية وفكرية مرموقة، وهذا يُحسب للحركة الثقافية في تركيا؛ بهوامشها التي تضيق عنها السياسة فتتجاوزها إلى ما هو خير وأنفع، وكذلك للمنظّمين ولدور النشر والجهات المشاركة، خاصة التي جاءت من عدة دول رغم المخاطرة، وتحقق بعضها في قلة الحضور نسبياً، وضعف القدرة الشرائية عند كثيرين، وفي أخطاء تنظيمية لا تليق بمعرض إسطنبول كانقطاع المواصلات أكثر من مرة رغم بُعد المسافة عن المحطة.

للثقافة رحمٌ أوسع

تندّر بعض الأكارم أنّ أكثر الحضور من "الإسلاميين" رجالاً ونساءً، وأن الكتاب "الإسلامي" أغلبُ من غيره في معرض إسطنبول! وبعيداً عن التفصيل في صحة ذلك وأسبابه أرى أن الثقافة رَحم أوسع؛ إذ جمعت الإسلاميين والعلمانيين جميعاً في معرض إسطنبول خاصة، بل لعل من الأخطاء الطريفة للمنظّمين –ولا أحسبها عن قصد– أن دور نشر متخصصة بالكتب الشرعية كانت إلى جانب دور لن تجد فيها كتاباً دينياً واحداً، كما أن جناح مركز بحثيّ كان بجانب جناح دار متخصصة بالأطفال؛ فتختلط أحاديث السياسة والفكر في الجناح الأول بأغاني الطفولة الراقصة في الجناح الآخر. وهذه طبيعة الأسواق الثقافية عند العرب؛ يأتيها صاحب الدّين والمارق منه واللامبالي به، فمن إيجابيات المعرض إتاحته سوقاً لكل الكتب، ومنبراً لكل قائل ومُحاضر محترم؛ وربما تتابع على القاعة ذاتها مُحاضران متناقضان فكراً وموضوعاً يقول كلّ منهما ما يريد، ولكلّ منهما جمهوره والمقتنعون به. كما تجد الكتاب في جناحٍ والردّ عليه وتسفيهه في جناح آخر؛ كما كان الشاعر في أسواق العرب يمدح أو يهجو، ويأتي الآخر فيوافقه أو يُعارضه ويناقضُه؛ والحُكم للسامعين والخبراء.

ومن الطريف هنا أن جناح تلفزيون سوريا مثلاً؛ وخطّه العام والتفصيلي ليس دينياً أو "إسلامياً"، قد استضاف جلسات ثقافية مميزة لكتّاب ومثقّفين إسلاميين، فقالوا ما يريدون وليس بالضرورة أن يوافق رؤى التلفزيون أو إدارته.

وإلا فلماذا معارض الكتب وعناوين الثقافة؟ وهل كنّا سنشهد إقبالاً على المعارض لو أنها أُقيمت في جامعٍ أو كنيسة؟

ولْيَعذرني السادة المشايخ في الداخل هنا بمُصارحة: وإن كان لكم قَبول عند الناس وتعظيم فليس من الصواب أن تنظّم مديرية أوقاف معرضاً للكتاب؛ فأين المؤسسات العلمية والمدنية في البلد وأين أكاديميّو المحرّر والمثقّفون؟ نسلّم أنّ لكم المراقبة والضبط العام ولكن ليس لكم الوصاية والمُصادرة؛ والتنظيمُ وصايةٌ ومُصادرةٌ للثقافة بالجُبّة والعمامة، لا يوافقكم عليها المثقف الإسلاميّ -إن كان مثقفاً على الحقيقة- قبل غيره. ومِن سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم مع الشعراء تعرفون أنْ لا مُصادرة على القول والإبداع، وأنه أهدَى وكافأ على قصائد بدأت بالغزل، وكان في بعضها هجاء لمقرّبين منه. دون أن أغامر بإلغاء الرقابة الدينية؛ لكنّها رقابة عامة لا وصاية فيها ولا مُصادرة.

الكتابُ وطنُ مَن لا وطنَ لهم

كان جرح غزّة حاضراً في معرض الكتاب بالصور والكتب وبالفعاليات والمحاضرات؛ ولكنّ الغصّة وأنت ترى شتاتاً عربياً وغير عربي اجتمع في تلك المساحة الثقافية الآمنة، فهنا دور نشر عراقية حُرم أهلها بلدهم بعد الغزو واستيلاء إيران عليه، وهناك دور سورية صارت رقماً صعباً في السوق الثقافية لسوريين مهجّرين حُرموا من سوريا منذ سنوات، أو لسوريين جاؤوا من أوروبا بكتبهم وإصداراتهم، تتجاور مع دور محدودة جاءت من دمشق. وتلتقي فلسطينيين لم يزوروا فلسطين، وإيرانيين حُرموا إيران بعد حُكم الملالي، وآخرين طاجيك وأوزبك مع خليجيين شاردين من دولهم. وما أجمل معارض الكتاب في الشمال وقد كانت فرصة لدخول كثيرين لم يدخلوا سوريا منذ سنوات؛ فشاهدوا أهلهم والتقَوا ببعضهم، والتقى الناس في الداخل بوجوه ثقافية لم يروها؛ إذ لم يدخل إليهم من قبل إلا أصحاب المنظّمات وتجّار الإنسانية، وعملاء الأجهزة ممن يَرون ولا يُرون.

إنه الكتاب وطنُ مَن لا وطنَ له، وإنها الثقافة الأمّ التي تجمع في رَحمها كل إنسان محبّ للعلم والمعرفة.

إكرام وابتزاز

بعد سنوات على زيارة معرض إسطنبول وغيرها ومعارض الداخل السوري فإن الحق يُقال: أكثر دور النشر والمكتبات المحلية والعربية تتعاون فتخفض بالأسعار وقد تُهدي حينما يعرفون أن الكتاب لمكتبة عامة بجامعةٍ في الداخل السوري، وكثيراً ما يكون ذلك فرصة للحديث عن الداخل وعن التعليم لكثيرين يجهلون حياة الناس هناك أو يختصرون الصورة بسيادة فلان أو فلان من الأرذال. لا أستثني من الإكرام الدور القادمة من دمشق ومناطق سيطرة نظام الأسد؛ فيكفيهم أنها لجامعة وأنها في سوريا حتى يتعاونوا ويُكرموا أكرمهم الله. دون أن ننكر وجود مستغلّين لا يعرفون داخلاً إلا ما يدخل جيوبهم ولا خارجاً إلا ما يخرج من عندهم.

وكم يؤلم أن تتعاون بعض الدور العربية أكثر من الدور المحلية وأن يبادر كاتب عربيّ أو تركيّ لإهداء مؤلفاته مجاناً ويُحاسبك مؤلف سوريّ بالدولار على كتبه أو إصداراته! ومن المبادرات المميزة لبعض الكتّاب سماحُهم بطبعة خاصة من بعض مؤلفاتهم بسعر التكلفة فقط للداخل السوري، كما فعل وضاح بن هادي العام الماضي وأيمن العتوم هذا العام؛ فأين الكتّاب السوريون -وما أكثرهم- عن مثل هذه المبادرات؛ وفيهم خير كثير؟

الكتاب أغلى من المال؛ فمَن وجد ضالّته لم يهتمّ أكان حظّه عند كريم أم أنه وقع بين يدي لئيم، وما زلتُ أذكر وأضحك أنني يوماً بعتُ بعض ذهب زوجتي الحبيبة "إسوارتَين" مشكورةً لشراء كتب من أحد المعارض.

معارض الكتاب أسواق للعرب عامة وللسوريين خاصة، وإنّ الكتاب رئة والثقافة أوكسجين؛ وما أحوجنا لمساحات آمنة نلتقي فيها نقرأ ونتحادث في زمن الاضطراب والاحتراب! وما أحوجنا لتنفّس النقاء في زمن الاختناق بروائح البارود والدماء.