مع تجدد انفجار الوضع في قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها "كتائب الأقصى" الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية حماس في السابع من شهر تشرين الأول الجاري، تخلى العالم الغربي بين ليلة وضحاها عن كل قيم العدالة والإنسانية والحرية التي حاول تصديرها للعالم بوصفها قيماً غربية أصيلة، ليتلطى خلف أسطوانة مشروخة باتت مكرورة وسمجة تتمثل بدفاعه المستميت عن دولة الاحتلال بحجة "معاداة السامية".
من يتابع تصريحات الزعماء الغربيين والهجمة الإعلامية التي تبعت عملية طوفان الأقصى مباشرة، سيكتشف حجم التهويل ومحاولة شيطنة ما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية ضد الإسرائيليين وتصويرها على أنها ذبح أطفال ومدنيين واغتصاب نساء، وفق سيناريوهات معدة مسبقاً وتفتقر لأي دليل مادي باستثناء الرواية الإسرائيلية التي فندتها الوقائع على الأرض.
عبارات "معاداة السامية" "الهولوكوست" عادت مجدداً لتتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار في العالم الغربي، في محاولة متجددة لتعزيز الصورة الذهنية لدى المتلقي الغربي بأن ما يحصل في فلسطين هو امتداد لجرائم "الهولوكوست" و"محاكم التفتيش" بحق اليهود، والأمور لم تقف عند هذا الحد حيث رمى العالم الغربي حرية التعبير والعدالة والإنسانية والمساواة التي صدع رؤوس البشرية بها عند أول سلة مهملات، وتبنى وجهة النظر الإسرائيلية وهدد بمحاسبة وتجريم أصحاب أي وجهة نظر ثانية، حتى باتت أي وجهة نظر ثانية هي امتداداً لجريمة "معاداة السامية" التي تم تفصيلها بدقة لتناسب المقاس الغربي لحرية التعبير.
السعار الغربي اتجاه الأحداث في غزة لم يقتصر على تصريحات المسؤولين ووسائل الإعلام، بل امتد للتقييد على وسائل التواصل الاجتماعي التي تحاول طرح رواية مخالفة للرواية الغربية، كما وصل الحد عند بعض الدولة لتجريم أصحاب الرأي المخالف وأي تعاطف مع الضحايا الحقيقيين.
وهذا الانحياز الغربي المطلق لإسرائيل على حساب 2360 طفلاً فلسطينياً 1292 سيدة وفتاة، و295 مسناً قضوا تحت الأنقاض خلال 17 يوماً؛ والمعرف بمصطلح "الفيلوسامية" سبق وتحدث عنه أبراهام ملتسر في كتابه "صنع معاداة الساميّة... أو تحريم نقد إسرائيل"، وهو مصطلح ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، بالتوازي مع ظهور مصطلح "معاداة الساميّة"، ويعني "الحب أو التعاطف أو إظهار المودّة للسامية".
يقول الكاتب: "الكثير من اليهود يحتقرون بشدة هذه النزعة المفرطة من الفيلوسامية الباهتة أو الساذجة ثقافيا، فهي تقتات على مشاعر الذنب والتكفير الألمانية، لهذا ليس من الغريب أن يقابل المرء كثيرا من المسيحيين في الدوائر الموالية لإسرائيل وفي تظاهراتها".
وبذلك يختزل الغرب الساميين باليهود ولا يعترف بالفصل بين اليهودية والصهيونية، فمعاداة الصهيونية هي معاداة لليهود والسامية، رغم أن الصهيونية هي إيديولوجيا تحمل منذ نشأتها طبائع كولونيالية وعنصرية وإجرامية، ومن الطبيعي محاربة هذه الإيديولوجيا السامة والقاتلة. هذه الانتقائية الغربية للساميين انتهت باستباحة الدم الفلسطيني بل وتشجيع إسرائيل على ذلك وتزويدها بكل ما يلزم من أدوات قتل فتاكة، كما انتهت الدعاية الألمانية ضد اليهود بالهولوكوست بعد تحميلهم وزر خسارة الحرب العالمية ووصفهم بـ "الطعنة بالظهر".
"معاداة السامية" جريمة غربية
ومن سخرية الواقع، أن الجريمة التي يحاسب عليها العرب والمسلمون بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص والمتمثلة بـ "معاداة السامية" هي جريمة غربية بامتياز، بل تصل إلى حد الكوميديا السوداء عند تجاهل الحقيقة الثانية وهي أن العرب هم أيضاً شعوب سامية، فالمصطلح الذي استخدمه لأول مرة من قبل الصحفي الألماني وليم مار عام 1879 لتمييز الحركة المناهضة لليهود، والتي انتشرت في معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وتوجت بجرائم النازية ضد اليهود والتي تعرف اصطلاحا بالـ "هولوكوست" هي نتاج أوروبي غربي بامتياز، وله جذور ضاربة في الثقافة الأوروبية تمثلت بسلسلة المجازر التي طالت اليهود والقائمة على اتهام اليهود بصلب السيد المسيح واضطهاد تلاميذه في القرون المسيحية الأولى، كما تم اتهام اليهود بعدة تهم ومنها تسميم آبار المسيحيين والتضحية بالأطفال كقرابين بشرية وسرقة خبز القربان وتدنيسه، وتوجت هذه الجرائم خلال محاكم التفتيش في القرون الوسطى حيث كان العالم العربي والإسلامي هو الذي احتضن اليهود المضطهدين في تلك الفترة.
جريمة غزة امتداد لـ "معاداة السامية"
بالعودة للمجزرة المتواصلة في غزة والتي هي امتداد لسلسلة الجرائم بحق الشعب الفلسطيني منذ مطلع القرن الحالي، سنجد أنه ليست سوى امتداد لسلسلة جرائم العالم الغربي بحق الساميين، لكن هذه المرة بحق ساميين آخرين وهم الفلسطينيين، وعبر ضحايا الغرب السابقين وهم اليهود، وأي يهودي يملك بصيرة وبعد نظر، سيدرك تماماً أن انتزاع اليهود من مجتمعاتهم التي عاشوا فيها لمئات السنيين، ومحاولة زرعهم في أرض ليست أرضهم ومحيط لم يكن معادياً لهم بل كان ملاذاً احتضنهم عندما نكل بهم، بعد تهجير أصحاب الأرض الحقيقيين ما هو إلا جريمة غربية جديدة تضاف إلى سجلهم في معاداة السامية التي يتباكون عليها، فدفاع أصحاب الأرض عن حقهم المشروع بالتمسك بأرضهم ليس جريمة و"معاداة للسامية" بحسب التوصيف الغربي، لكن المجرم الحقيقي والمعادي للسامية هو نفسه المجرم السابق الذي يتباكى الآن ويحاول الإيحاء بأنه يحاول التكفير عن جرائمه السابقة بحق اليهود بشكل خاص والساميين بشكل عام.
مأساة غزة والشعب الفلسطيني المتواصل لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وحجم الدم المراق لا يمكن تعويضه، لكنه بالتأكيد سيكون فصلاً جديداً في تعرية النفاق الغربي حيال قضايا شعوب الشرق الأوسط، وأن قيم الحضارة الغربية التي يحاول تعميمها على العالم ما هي إلا أقنعة ستسقط عند أول استحقاق حقيقي يهدد مصالحه، ومن هذه الأقنعة "معاداة السامية" التي تخفي وراءها الوجه الانتهازي الحقيقي والقبيح.