icon
التغطية الحية

مظلومون من الجميع ومن بعضهم بعضاً.. هل من إنصاف للمترجمين العرب؟

2021.08.05 | 18:13 دمشق

trjmt-_tlfzywn_swrya.png
+A
حجم الخط
-A

فقط التفتْ وستدرك أن المترجمين مظلومون جداً، في عالمنا العربي بصورة خاصة. ورغم ما يشهده العالم من تطور علمي وتقني انعكس على كل مجالات حياتنا، الفكرية منها والثقافية، ظل المترجمون مظلومين من القرّاء والنقاد ودور النشر، ومن بعضهم بعضاً أيضاً مع الأسف.

وببساطة شديدة، من النادر أن نجد قارئاً عربياً يمكنه تذكُّر مترجم رواية "زوربا" أو "ليلة لشبونة" مثلاً بعد أن يستعرض شريط ذاكرة قراءاته. كما لا يمكنه تذكّر مترجم أي كتاب آخر إذا لم تربطه علاقة صداقة أو زمالة أو عمل بذلك المترجم، فالقراء بشكل عام لا يلتفتون إلى المترجم، وجلّ اهتمامهم ينحصر بعنوان الرواية واسم مؤلفها وحسب.

دور النشر

تلعب دور النشر العربية دوراً رئيساً في ظلم المترجمين؛ يبدأ من غلاف الكتاب ويتنهي بالحقوق و"الملكية الفكرية". ولو استعرضنا بعجالة مجموعة من الأغلفة، سنرى تقصير دور النشر في إبراز اسم المترجم على الغلاف، فغالباً ما يكون مكتوباً بخط صغير وبأطراف الغلاف، كما لا تقوم الدور بتخصيص تعريف موجز بسيرة المترجم الذاتية أو تسليط الضوء على أعماله التي ترجمها.

ويتحدث المترجم (سعيد بوخليط) عن علاقة المترجمين مع دور النشر فيقول: "هذا الجانب، إضافةً على بؤسه، ما زالت تشوبه اختلالات كثيرة تقوض روح الطمأنينة المفترضة بين الناشر والمترجم، بسبب الافتقار إلى روح التعاقد القانوني والفكري وقبلهما الأخلاقي. لذلك، يقتضي الأمر حدوث ثورة ثقافية نوعية، تضع الترجمة في قلب التفكير المؤسساتي للمشاريع المجتمعية".

ولم يتوقف ظلم دور النشر على ذلك وحسب، فإضافة إلى البخس المالي في شراء حقوق المترجمين، تقوم دور النشر بطباعة الكتاب الواحد لعدد من المترجمين، وأبسط مثال على ذلك رواية "أهالي دبلن" لـ (جيمس جويس)، التي ترجمها إلى العربية (أسامة منزلجي) أولاً. وصارت خلال السنين اللاحقة على رفوف المكتبات وفي معارض الكتب بنسخ مختلفة ولعدة مترجمين.

يحدث ذلك في وطننا العربي خاصة لغياب ما يسمى "حقوق الملكية الفكرية"، كما لا يفكر أحد أصلاً بالعودة إلى صاحب الكتاب الأصلي أو مسؤول تسويق كتبه لشراء تلك الحقوق.

يقودنا هذا إلى أن المترجمين يظلم بعضهم بعضاً أيضاً، في ظل غياب الرقابة المؤسساتية والإعلامية عامة والنقاد خاصة، فالنقاد والصحفيون لا يسلطون الضوء على تلك التجاوزات من جهة، ولا يهتمون بنتاج المترجمين من جهة ثانية، فقلما نقرأ لناقد ما تناوله لكيفية الترجمة ودقتها، وللجوانب الإبداعية بين مترجم وآخر، وللترجمة من لغة ثانية، ولأمانة الترجمة؛ بل لا يسلّط الضوء على سرقة مترجم لأعمال مترجم آخر، كما حدث أخيراً حين سطت إحدى دور النشر على أعمال الأديب (أمين معلوف) وطباعة كتبه من دون الرجوع إلى الترجمات الأصلية ولا حتى إلى الكاتب ذاته.

ويلّح هنا السؤال: هل يجهل المترجم وجود زميل له سبقه بترجمة العمل الذي سيقدم على ترجمته؟ وإن كان يعلم، أفلا يخجل من ذلك الزميل، أم هل سيضيف جديداً إبداعياً على الترجمة الجديدة؟ وهل فاته وجود نقّاد أو صحفيين سيجرون مقارنات بين الترجمتين؟

ربما تبرز بعض الإيجابيات من خلال ترجمة أكثر من مترجم لكتاب واحد، وتتمثّل في إضافة أدوات جديدة للنقاد لعقد مقارنات بين مستويات المترجمين وتفضيل عمل مترجم على آخر. إلا أن هذا لم يحدث يوماً في بيئتنا الثقافية لعدم اهتمام النقاد بذلك أصلاً، ويبقى الهدف الرئيسي المسيطر يكمن في جشع دور النشر وبحثهم عن السلعة (المترجم) الأرخص في معظم الأحيان.

الظروف المعيشية

الظلم الأكبر للمترجمين هي حالتهم المادية وظروفهم الاجتماعية والمعيشية التي تسهم في تحديد اختياراتهم للكتب ما بين المهني والإبداعي.

الظلم الأكبر للمترجمين هي حالتهم المادية وظروفهم الاجتماعية والمعيشية التي تسهم في تحديد اختياراتهم للكتب ما بين المهني والإبداعي.

يقول المترجم (أسامة منزلجي) في حديث خاص مع كاتب المادة: "يجب أنْ تضع في ذهنك أنني أتحدث من سوريا، التي تمرّ وأهلها بأشدّ ما يمكن تخيله من سوء في الظروف. نحن هنا لا تتوافر لدينا إلّا بعض الكتب التي صدرت قبل سنوات، والكتب الأجنبيّة لا وجود لها البتَة، بطبعتها الورقيّة أقصد، أمّا نسخ الـ PDF المتوافرة فلا طاقة لديّ على اللجوء إليها لقراءتها، وأفضّل حتماً الطبعات الورقيّة التي لا وجود لها في أسواقنا".

ومع أن صعوبة الحياة والظروف الشخصية عامة تحدد نوعية الكتب التي يختارها المترجم، فإنه ثمة بدايات تفرض أيضاً حرية هذا الاختيار، حيث لا يمتلك المترجم المستجد في عمله ترف الاختيار بين نص وآخر، بل يقبل معظم العروض أو جميع الخيارات المتوافرة، وليس بسبب الضغوط المالية والاقتصادية المعتادة فحسب، بل قد يفضل المترجم الخوض في تجارب جديدة لاكتساب الخبرة التي ستساعده لاحقاً في التوجه نحو المجالات التي يفضل العمل عليها. في حين ثمة من كانت بداياتهم لها علاقة مباشرة مع دراستهم الأكاديمية، وترجموا ما مر معهم من كتب جامعية أو حتى مدرسية.

خيارات المحترفين

وتلعب دور النشر دوراً كبيراً في تحديد خيارات المترجمين أيضاً، وهذا من ظلمهم أيضاً، لكن ثمة من يعتمد في خياراته على ذائقته أو حبّه شخصياً لكاتب ما، ومعرفته به وبمؤلفاته، أو عبر قراءاته عن أدبه وفكره، أو يعتمد على اعتقاده بأنّه كاتب مبدع ولكنه لا يأخذ حظّه من الترجمة إلى لغتنا العربية.

وهناك مترجمون محترفون ممّن يرفضون سطوة دور النشر، ويحددون خياراتهم تبعاً لتخصصهم ومرجعياتهم الفكرية والثقافية وفهمهم الخاص لدور الترجمة في نقل المعرفة والثقافة والتنوير.

المترجمة (رندة بعث) تؤكد أنها لا تختار إلا الكتاب الذي ستمثل ترجمته إضافة إلى المكتبة العربية، ولها شخصياً. وإذا لم تكن له مثل هذه القيمة، فإنها تعتذر عن ترجمته. أما المترجم (عدنان حسن) فيؤكد أن اختياره لكتبه  يتم وفقاً لمعيارين: الأول هو جدة الموضوع أي أن يكون موضوع الكتاب غير مطروق سابقاً وأن يقدم الكتاب خدمة معرفية وتثقيفية للقارئ، أما المعيار الثاني فهو المعيار الأيديولوجي، أي المنهج الفكري الكامن وراء تأليف الكتاب. ويرى (أسامة إسبر) أن الترجمة "سفر دائم لتقديم كتاب ممتع ومختلف وتنويري، وبسوية لغوية رفيعة للقارئ العربي".

القارئ أخيراً                    

ممّا سبق، نلاحظ أن حركة الترجمة في الوطن العربي ما زالت خارج العمل المؤسساتي، حكومياً كان أو خاصاً، وظل الإطار المزاجي والفردي والسلعي، كمقاييس سائدة للخيارات، بعيداً كل البعد عن القارئ العربي، الذي في المحصلة هو من سيشتري الكتاب ودفع بذلك أجرة المترجم.

وكما يقول المترجم (بوخليط): "ما نعانيه حالياً يظل فقط مجرد هواجس فردية معزولة ونزوعات شخصية أساسها شغف صاحبها أو أساساً لأنها مصدر رزق بالنسبة للعديد من المترجمين في إطار عقود أبرموها مع بعض دور النشر..".

وإضافة إلى الجانب الربحي والتجاري لدور النشر، وحاجة المترجمين المادية والمهنية، ظل القارئ بعيداً حتى عن محاولات التثاقف والتنوير المعرفية والفكرية التي خضعت للانتقائية وحتى للعصبوية الأيدولوجية.

في كتابه "العرب وعودة الفلسفة" يقول المفكّر (أحمد برقاوي): "غير أنَّنا يجب أن نلاحظ هنا أن الترجمة قد أخذت طريقين: الاستمرار في نشر الأفكار عبر الترجمة، والترجمة لذاتها والتي فرضها تطور الحياة الفلسفية.. في الحالة الأولى نجد أن التيارات الفلسفية الأوروبية صارت جزءاً من الوعي الفلسفي. فراح الفيلسوف العربي، أو المشتغل بالفلسفة وذو زاوية رؤية محددة، يترجم ما ينجذب إليه من التيارات الفلسفية. فإذا بالوجودي يترجم للوجوديين الأوربيين، أو ما ينسب إلى الوجودية، والماركسي يترجم لأنماط الماركسية السائدة، فضلاً عن مؤلفات مؤسسيها، والوضعي والعقلي كل يسعى لتأكيد تبنيه الفلسفي".

ظلم عالمي

ظلم المترجمين لم يتوقف على وطننا العربي وحسب، بل العالم بأسره يشهد حوارات وسجالات حول المترجمين وحقوقهم، وعلاقتهم بدور النشر وبوسائل الإعلام، وقربهم وبعدهم من الإبداع والأمانة والخيانة، وبآراء أصحاب الكتب، أي مؤلفيها، بهم وحولهم، والتي تتباين بين المترجمين، وتشطح نحو السخرية أحياناً وترتقي نحو التقدير أحياناً أخرى. فثمة من يقول إن الترجمة هي أفضل الطرق للقراءة، ومن يقول إنها الأكثر مشقة والأقل تقديراً في الوقت ذاته، فضلاً عن عائدها الزهيد، في حين يقول المثل الإيطالي الشهير: "المترجمون خونة"، ويقصد أن من يترجمون لنا إنما يقومون بخداعنا.

المترجم الفرنسي الشهير (موريس إدجار كوندراو)، يقول في إشارة إلى ترجمته لـ (فرانسوا مورياك): "المترجم هو قرد الكاتب الروائي"، ويقصد أن المترجم عليه محاكاة الكاتب في لفتاته وأوضاعه وخلجاته، سواء أعجبته أم لا. وهو من قدم ترجمات لكل من (ويليام فوكنر) و(جون دوس باسوس) و(آرنست همنجواي) و(جون إستينبك). ولا تعد هذه الترجمات إبداعات رصينة وحسب، بل إنها أدخلت إلى فرنسا كتابات هذا الجيل التاريخي، والذي تجلى أثره بين أقرانهم الفرنسيين، ومن بينهم سارتر وكامو.

وربما يظل هناك احتمال ضعيف أن يشعر كاتب ما بالرضا عن ترجمة أحد أعماله، ففي كل كلمة وكل عبارة هناك دائماً قصد ثان متوار، لذلك فإن الكاتب من دون شك يتمنى دوماً لو يشارك في الترجمة إذا أمكن ذلك. لكن الروائي العالمي (غابرييل غارسيا ماركيز) قال: "بالنسبة إلي فليس هناك ما هو أكثر مللاً من قراءة أعمالي المترجمة باللغات التي أجيدها وهي ثلاث، ذلك أنني لا أعرف نفسي سوى بالإسبانية، غير أنني قرأت كتاباً لي بالإنجليزية ترجمه (جورج راباسا)، وعلي الاعتراف بأنني وجدت مشاهد بدت لي في ترجمتها الإنجليزية أفضل من النص الإسباني، فالانطباع الذي توحي به ترجمة راباسا أنه كمن يقرأ النص بلغته كاملاً ثم يعيد كتابته مجدداً بالإنجليزية، وأمانته في الترجمة أكثر تعقيداً من أية حرفية. هو لا يكتب أية حواشٍ في ذيل الصفحة، وهي التقنية الأقل كفاءة وللأسف هي من أكثر التقنيات التي يلجأ إليها المترجمون غير الأكفاء".

ورغم انعكاس ما شهده العالم من تطور علمي وتقني، إيجاباً، على كل مجالات حياتنا الفكرية منها والثقافية، فإن الانعكاس جاء سلباً على المترجمين، وأسهم في ظلمهم أيضاً!

فتطور طرق الحصول على القواميس، وسرعة إيجاد معان الكلمات بكل اللغات "بكبسة زر" والتطور التقني الذي أسهم في إيجاد ترجمات إلكترونية سهلة وسريعة، من المتوقع أن يقابله انخفاض في أجور الترجمة من جهة، وتقليص عدد المترجمين التقليديين من جهة أخرى، ولكن بالتأكيد تبقى الحاجة إلى الترجمة البشرية مستمرة بسبب دخول كلمات جديدة على كل لغات العالم، وستظهر منافسة جديدة بين الإنسان والآلة، وهذا يتطلب من المترجمين الساعين للحفاظ على إبداعهم الثقافي ومردودهم المادي، تطوير ثقافتهم ولغتهم ومهاراتهم للارتقاء إلى الترجمة الإبداعية