أن يجتمع السوريون للاحتفال بالذكرى الثانية عشرة للثورة في مناطق شتاتهم الكثيرة، هو أمر يبعث على الثقة والأمل، وهو فعل بالغ الأهمية، وتزداد أهميته في ظل الواقع الذي وصلت إليه مجريات الحدث السوري، وخصوصاً في هذا التهافت المخزي، ومحاولات أطراف كثيرة دولية وإقليمية طي صفحة الثورة السورية، وإعادة تعويم بشار الأسد، بحجة أنه لا إمكانية لحل آخر.
لكن أن تتحول مناسبة إحياء ذكرى الثورة إلى طعنة في ظهرها بيد من يحسبون عليها، وأن تتسبب هذه المناسبة في عودة أبواق إعلامية للعزف على نشاز الفكرة التي أشاعها إعلام النظام السوري في بدايات الثورة، وهي أن من ثاروا في وجه بشار الأسد، ثاروا لأنهم طائفيون ومتطرفون، وليس لأنهم طلاب حرية ومواطنة، فهذا يعني أننا في كارثة أخرى.
في مدن كثيرة أقام السوريون فعاليات لإحياء ذكرى ثورتهم، وكانت فعالية العاصمة الفرنسية "باريس" متميزة هذه السنة، من حيث المشاركة وحضور غير السوريين، والتنظيم وغير ذلك، وكذلك كانت بعض الفعاليات الأخرى سواء في الداخل السوري أو خارج سوريا، لكن الصدمة القاسية والتي طغت ببشاعتها على الأمل الذي ولّدته الفعاليات الأخرى، جاء من الفعالية التي جرت في مدينة "دورتموند" الألمانية، حيث طغى الهتاف الطائفي، وتحولت ذكرى الثورة إلى بازار لشعارات طائفية صادمة.
معظم من هتفوا الهتافات الطائفية هم من الشباب، وهم ممن غادروا سوريا منذ أكثر من سبع سنوات، وبالتالي هم منذ سنوات يعيشون في مجتمعات ديمقراطية
لن أتوقف عند مجريات الفعالية، ولا عند تفاصيلها المحزنة والمخزية، لكن من المهم جداً أن نتوقف كسوريين عند دلالات هذه الفعالية، وأن نحاول بشفافية ووضوح أن نفسر لماذا حدثت، وما هي أسباب تنامي التخندق الطائفي؟ بعدما ظن أغلبنا أن تجارب ودروس وعِبَر سنوات الثورة السابقة لا بدّ أنها دفعت الكثير من الطائفيين إلى إعادة حساباتهم، بعد أن تبين بوضوح أن الطائفية هي الخطر الذي دفعنا جميعنا ثمناً باهظاً بسببه، وسندفع ربما أثمان أكثر وأكثر.
النقطة الأولى التي يجب التوقف عندها، هي أن معظم من هتفوا الهتافات الطائفية هم من الشباب، وهم ممن غادروا سوريا منذ أكثر من سبع سنوات، وبالتالي هم منذ سنوات يعيشون في مجتمعات ديمقراطية، وعايشوا بشكل ملموس معنى المواطنة، ومعنى دولة القانون، ومعنى حرية الرأي، والاختلاف، ودور الأحزاب، والبرلمان و..و..الخ، فما الذي حدث لكي يدير هؤلاء ظهرهم لكل هذه الحقائق التي عاشوها وخبروها، وذهبوا إلى خيار بالغ السوء لهم ولوطنهم ولثورتهم؟
النقطة الثانية، وهي شديدة الخطورة، إذ لا يزال معظم السوريين يغمضون أعينهم عن حقيقتها الصادمة، وهي أن الثورة لم تستطع أن تؤسّس لأي ثقافة جديدة من شأنها أن تخلخل منظومة المفاهيم التي أعاقت الثورة، وكانت أداة النظام الأساسية في تفتيت السوريين، وفي تشويه ثورتهم، والأخطر أنها كانت السبب الأهم في إفشالها، وأقصد التصنيفات الطائفية وغيرها، والغريب في قضية الطائفية أن معظم السوريين بما فيهم مثقفون وسياسيون، يتعاملون معها بمنطق موارب فلا هم يواجهون حقيقتها، ومدى حضورها وتأثيرها، ولا هم يواجهونها أو حتى يؤسّسون لمواجهتها، ليس هذا فحسب بل، ويصمتون عمن ينفخون بها، وعمن ركبوا موجتها من أجل شعبوية متعصّبة، بدأت تظهر نتائجها، وبدأنا ندفع جميعاً ثمنها، وها هي "دورتموند" إحدى نتائج هذه الموجة.
النقطة الثالثة، تتعلق بالطريقة التي يواجه بها السوريون المشكلات التي تعترضهم، فهم دائماً أسرى رد الفعل، يتجاهلون المشكلة طالما أنها ليست حاضرة في هذه اللحظة، وهذا ما يجعلنا ندفع الثمن مراراً ومراراً دون أن نتمكن من حل المشكلة، أو حتى البدء بحلها، وهنا تحضر المسألة الطائفية في رأس قائمة المشكلات المتفاقمة، والتي لا بد من الاعتراف بحجمها، ومدى خطورتها، ومدى خطورة الأبواق التي تنفخ فيها من أجل غاياتها الخاصة.
في المحاولة التي قام بها بعض السوريين للتنبيه إلى خطورة الخطاب الطائفي، وهم من المشاركين في تظاهرة دورتموند، تم التصدي لهم بعنف بالغ، وهنا أيضا تظهر مشكلة أخرى، وهي أن الوقوف إلى جانب الثورة لم يعد يخفف من العداء الطائفي، أي أن الثورة والموقف منها لم يعد عند من كانوا في "دورتموند" هو المعيار الذي تتحدّد وفقه علاقتك بالآخر، وهو معيار رغم أنه خاطئ، إلا أنه لم يكن سيئاً إلى الحد الذي ظهر كمعيار وحيد معتمد في التظاهرة، والمعيار الوحيد الذي قامت عليه معايير "دورتموند" هو طائفتك، وهي التي تحدد أن تكون معنا أو تكون ضدنا.
يجب أن لا نكتفي بإدانة ما حدث في دورتموند، إن الأهم من الإدانة هو أن نعي حجم الخطر المشار إليه
عندما تتعثر الثورة، ويطول نزيف جرحها المفتوح، تنفتح على احتمالات شتى، أخطر ما في هذه الاحتمالات هو أن تشتعل الصراعات بين من قاموا بها، عندها ستتحول الثورة إلى صراع ضارٍ بين أفراد كانوا معاً في صراع مع طرف آخر، هذا أخطر ما قد يواجه أي ثورة.
يجب أن لا نكتفي بإدانة ما حدث في دورتموند، إن الأهم من الإدانة هو أن نعي حجم الخطر المشار إليه، وإن مسؤوليتنا جميعا إنما تتجلّى في عدم الانجرار لمواجهة التطرف بتطرف مضاد، بل في قراءة أسباب ومخاطر ما يحدث اليوم، وما يفعله المحرضون الطائفيون، وحملة الخطاب الطائفي.
لقد صفعتنا مظاهرة "دورتموند" بقوة، وسألتنا بفصيح العبارة، وبكل وضوح السؤال: ماذا استفدنا كسوريين بعد تجارب سنوات طويلة من عمر الثورة؟ وماذا تعلمنا من دروسها، وماذا قالت لنا سنوات من القهر والموت والجوع والتشرد؟ ولماذا لا نزال عاجزين عن الفعل أو عن تلمّس مكامن الخلل في عملنا وتفكيرنا.
ويبقى السؤال المفتوح بكل فاجعته، إذا كنا بعد كل ما جرى، لا نزال طائفيين، وأننا نرى الوطن من نافذة الطائفة فإلى أين نمضي بسوريتنا؟