"مصر الثقافة والهوية"، كتاب صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو من تأليف خالد زيادة، وتتركز فصوله التسعة على بحث السياسة المصرية منذ بداية القرن التاسع عشر، مع ظهور ملامح المرض في جسد الإمبراطورية العثمانية وازدياد نفوذ الدول الأوروبية.
كما يتناول الكتاب انفتاح الثقافة والمثقفين على الأفكار الواردة، وعلاقة الثقافة بالسياسة، وذلك بعد استعراض تاريخي لعلاقة المصريين بالسلطة والعسكر في حقبات تغيُّر الدول المتعاقبة على حكم مصر ودور المثقف وتأثيره في التحولات الاجتماعية والثقافية والثورية.
أسئلة جوهرية عن المثقف ودوره
ويرصد الكتاب الذي جاء في 256 صفحة، تطور دور المثقف في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، في ضوء نظرة متنطّعة تعمى عن أنه ابن بيئته يتأثر بها ويؤثر، وتصوِّره كأن في يده إكسير الحياة لمجتمعه والحلول لمشكلاته جميعًا، فهل يمكن رفع المثقف فوق السياسة وتناقضات القوى السياسية؟ وهل هو مستقل حقيقة عن السياسة وقادر على أداء دوره ووظيفته بمعزل عن السلطة القائمة؟ ألا يتبدّل دور المثقف من حقبة إلى أخرى؟ هل يشكل دور المثقف ووظيفته كتلة متجانسة متماسكة أو أنهما يتناقضان في بعض الأحوال؟ وهل اشتغال المثقف في السياسة والاجتماع يؤثر في وظيفته الأصلية أو أنه يخفّض من شأنه وشأنها؟ وإذا تخلّى المثقف عن أداء دوره في الاجتماع والسياسة، فهل يحتفظ بصفة المثقف أو يصبح حِرَفيًّا أو صاحب مهنة؟ ما مقدار مساهمة المثقف في بناء الدولة وبلورة الأفكار الوطنية؟ وهل هو الذي يصوغ الهوية الوطنية أو يشارك آخرين في ذلك؟ أسئلة مصيرية يحاول كتابنا الإجابة عنها في إطار تجربة محددة أو تجارب مقارنة.
إن الإطلاق الأول لتسمية "مثفقين" كان على أولئك الذين اكتسبوا شيئًا أو بعضًا من ثقافة الغرب واحتلوا وظائف لم يكن الفقيه يقوم بها، بعد اتباع العاهل في القرن التاسع عشر عادةَ إرسال بعثات من تركيا العثمانية والبلاد العربية، ومن أهمها مصر، إلى أوروبا لاكتساب علوم التقنيات والإدارة والعسكر الحديثة، ثم تسلُّم أفراد هذه البعثات وظائف خلال خدمتهم؛ إذ كانوا يتقلبون فيها بين هذه الاختصاصات جميعًا، التي لم تكن من التطور في مستوى يصعب معه على شخص واحد الجمع بينها؛ ما أدى إلى إطاحة القوات العسكرية السيفية (القديمة) وإنشاء جيش نظامي مدرَّب على العلوم العسكرية الأوروبية، ونماء دور المثقف مذّاك على حساب علوم الدولة التقليدية: الفقهية والقلمية والسيفية.
العالم العربي والتحديث
مرَّ التحديث في عالمنا العربي بحقبات رئيسة ثلاث: الأولى حقبة النهضة، وتُعرف بمرحلة التنظيمات، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ والثانية حقبة السعي إلى الاستقلال، وفيها برزت الوطنيات بأفكار ليبرالية؛ والثالثة حقبة النضال ضد الاستعمار والثورات والانقلابات، وفيها استتبّت الأنظمة الوطنية.
كانت هذه الحقبات قصيرة الأجل، ولم تتجاوز أيٌّ منها سوى عقود قليلة، ولذلك عايش معظم مثقفيها أكثر من مرحلة فيها، ما صقل آراءهم ومواقفهم وشخصياتهم بقوة، وجعلهم يساهمون في بناء مؤسسات الدولة الحديثة في مرحلة النهضة والتنظيمات، بعد تلقيهم تدريبًا غربيًّا على علوم أوروبا وإتقانهم لغة من لغاتها، مقتنعين بأن من الممكن مع الوقت والتدرّب تمثُّل ثقافة أوروبا وبناء قوات عسكرية وأجهزة دولة وأجهزة قضائية وتعليمية عربية نظيرة.
التحديث والدستور
أدت مرحلة النهضة التي انتشرت فيها المعاهد التي تدرّس العلوم الحديثة واللغات الأوروبية، إلى المطالبة بإقرار الدستور، وتطورت المطالبات خلال سنوات عهد التنظيمات والنهضة حتى أُعلن الدستور في إسطنبول في عام 1876، لكنّ العمل به عُلِّق بعد سنة من صدوره، لتليَ ذلك سنواتُ قلقٍ قامت في إثرها ثورة عرابي، ثم قدِمَ المحتلّ الإنكليزي إلى مصر في عام 1882، بالتزامن مع احتلال القوات الفرنسية تونس، وهي أحداث وإن لم يكن ثمة رابط بينها لكنها أوجدت رأيًا عامًّا مثقفًا طالب دُولَه بإعادة العمل بالدستور ومجابهة الاحتلال الأجنبي، وبات في ممارساته غير مرتبط بالدولة وإداراتها ومؤسساتها، فتوسع في إصدار صحف للمعارضة قوَّت من عضد رأي عام مناهض للحاكم عبّر عن نفسه بإنشاء أحزاب وتيارات ليبرالية وإصلاحية، فاختلفت وضعية المثقف، وأصبح داعيةً إلى الدستور ومعبّرًا ومروِّجًا لأفكار وشعارات وطنية تدعو إلى بناء الدولة والاستقلال والتحرر.
كانت تجربة مصر التاريخية منذ بداية القرن التاسع عشر "ميزانًا" للتحولات التي سمحت ببروز "الوطنية"، التي يمكن اعتبار ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنكليزي أول شرارةٍ لها، والعقود الثلاثة التي أعقبتها بمنزلة المرحلة الليبرالية في تاريخ مصر، ليأتيَ كتاب المؤرخ عبد الرحمن الرافعي تاريخ الحركة القومية ضد الاحتلال الفرنسي ثانيًا مكمِّلًا لمشوارها، أما اشتداد عودها فكان في عهد الخديوي إسماعيل في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، إثر قدوم محمد علي وتبلور طبقة من الملّاك غير المصريين، وترجمتها بعد ذلك بطفوّ صراعات الهوية، وتصاعدِ دور المثقف ثم إسكاتِ الدولة صوتَه واحتوائها إياه واستحواذِها على دوره، فمصر - على عكس محيطها العربي والأفريقي - سعت خلال مئتي سنة إلى دور سياسي يتجاوز جغرافيتها ويجعلها قوة دولية، لكنها كانت تنكفئ دائمًا نحو العزلة، وكان دور المثقفين فيها مذبذبًا، إذ كانوا يُستدعَون في الظروف المصيرية وأوقات التحولات ثم يعودون إلى وظائفهم بعد استتباب الأمور وحسم المشكلة، وعلى سبيل المثال: خلال سنوات الاضطراب في مرحلة الانتقال من الدولة الأيوبية إلى الدولة المملوكية، برز العز بن عبد السلام مرجعًا وحكمًا وناصحًا للقادة والسلاطين، فالحقبة المملوكية رفعت شأن العلماء وجعلتهم قادة الأهالي وشركاء في السلطة وسمحت بغزارة كتاباتهم الفقهية والمعجمية. أما الفترة العثمانية فشهدت تراجع شأن العلماء المصريين وركود الحياة العلمية في مصر، وفق عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه، وللمفارقة فإن دورهم يعود مع قدوم حكم غير إسلامي إلى مصر، وهو حكم نابليون بونابرت، الذي كلّفهم إدارة البلاد من خلال الديوان الذي شكّله، فقادوا الأهالي وعبروا عن مطالبهم، حتى مدح الجبرتي الفرنسيين بداية، ثم لم يلبث أن فضح ما يقومون به من "هدم وتخريب للمعالم وتبرّج النساء". وتعود دورة تراجع العلماء مع تسميتهم محمد علي واليًا على مصر، الذي سلبهم دورهم الواسع وألزمهم وظيفة التدريس لا غير، لأجل أن يلتفت شطْرَ المثقفين الحديثين، الخبراء في الإدارة والمعاهد والجيش، المتسلحين بخبرتهم الحديثة المتلقّاة من معاهد فرنسا أو من خبراء فرنسيين، وأبرزهم "الداعية المثقف" رفاعة الطهطاوي، الذي أُوفد إلى فرنسا إمامًا مع إحدى البعثات، ونشر هناك كتابه تخليص الإبريز، ثم علي مبارك من بعده في عهد الخديوي إسماعيل.
ثم جاءت ثورة يوليو مع رئيس ذي تجارب مع مصر الفتاة ثم مع الإخوان المسلمين، وأعلن الحياد ثم انحاز إلى الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، كل ذلك أجبره على اتباع علاقة بالمثقفين يمكن اختصارها بإخضاعهم، من خلال تأميم جميع وسائل التعبير، من صحف ومجلات ودور نشر، وصولًا إلى فرض الرقابة على المقررات الجامعية، وتحديد مجالات الكتابة التاريخية، وانتزاع أي نفوذ للمثقف، وأي حرية في التعبير، وفرض الصمت على المثقفين حتى حين يتعلق الأمر بدور الدولة وهوية مصر، فتغيرت مصر تغييرًا كبيرًا في شخص رئيس هو عبد الناصر.
المثقف الحديث المستقلّ
ورثت شخصية المثقف الحديث طرفًا من وظائف العالِم التقليدي، لكنه دان بوجوده إلى مشروع الدولة الحديثة، وعمل في مؤسساتها ودرّس في معاهدها، ومع ذلك لم تقتصر صلته بها على خدمتها فحسب، بل أصبحت أفكاره محكَّ هذه العلاقة، فإن اعتمدتها الدولة كان مواليًا، وإلا كان يتحوَّل معارضًا، وخصوصًا مع افتقاده ميزة الاستقلال النسبي، التي كان يتمتع بها جهاز العلماء دون سائر أجهزة الدولة، منذ أيام المماليك. ومع استحواذ الدولة على الفضاء الاجتماعي العام، من أمن وتعليم وقضاء وعمران وغير ذلك، غدت فكرة المثقف المستقل أو المعارض استعارةً رمزية، ولم تعد ما تسمى "الدولة الوطنية" تُشرك المثقفين الحديثين في التعبير عن المدى الجغرافي - الترابي للوطنية، التي لا تنهض إلا إذا استندت إلى قوى مثقفة متفاعلة.
كانت تجربة مصر خلال القرن التاسع عشر أنموذجًا متقدمًا حقيقيًّا في محيطها، فقد قضت على بُنى السلطة التقليدية، ثم بنت مؤسسات حديثة للإدارة والحكم، وأسست جيشًا بدّل علاقة المصري بدولته، وأصدرت قانون ملكية الأرض، ثم وضعت هيكلية متطورة للتعليم الحديث، نظرت إلى أن التعليم جزء من صناعة هوية جديدة للمواطن وللدولة، وكان تأثير المثقف المصري في كل هذا كبيرًا، وتجاوز حدود الوطن الأمّ، لينشر نماذج من ثقافة حديثة في مجالات المقالة والقصة والرواية والصحافة والأدب، نُقلت من خلالها أساليب التعبير الحديثة الشائعة في أوروبا، واستخدمت الصحف لنقل ما يشهده العالم من تطورات في العلوم والتقنيات والسياسة، فانتشر إشعاع مصر شرقًا وغربًا في العالم الناطق بالعربية، من غير أن يقتصر ذلك الإشعاع على نشر الأفكار الليبرالية مع بدايات القرن العشرين؛ إذ كانت مصر سبّاقة إلى نشر الأفكار الإصلاحية، واستمرت ريادتها الثقافية حتى نهاية الستينيات، حتى استحقت أرضُ الكنانة والنيل والأهرامات بحقٍّ، وهي الموغلة في الحضارة، شهرتها بـ "أم الدنيا".